المؤسسة العسكرية في الدولة المدنية (الحلقة الخامسة)
–
محسن خصروف
هذا فيما يتعلق بالعامل الثقافي أما ما يتصل « بالحرفانية « فإن هانتينجتون» قد طرحها في إطار اهتمامه بموضوع العلاقات المدنية العسكرية وفق الأنموذج الليبرالي في الوقت الذي تجاوز فيه خصوصيات المجتمعات في العالم الثالث التي أثبتت تجارب البعض منها أن التلقي الجامد للنماذج النظرية الجاهزة غالبا ما يأتي بمردودات عكسية .
لقد اتجهت بعض القيادات السياسية في العالم الثالث نحو السيطرة على القوات المسلحة وفق الأنموذج الليبرالي من خلال فرض مبدأ الاحتراف دون أن يترافق مع ذلك اختيار إيديولوجي واضح للنظام الاقتصادي – الاجتماعي كما أنها قد اكتفت بإبعاد القوات المسلحة عن كل أشكال الصراعات السياسية في الوقت الذي ظلت فيه العلاقة بين مؤسسة الحكم والقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى غير واضحة لأنها لم تكن محكومة بأسس دستورية بل عمد الحكام إلى تسييس « العصبيات « من قبائل وبطون وأفخاذ وأعراق واعتمد الحكام على العصبيات أكثر من اعتمادهم على الدستور الأمر الذي ترتب عليه أن ظلت القوات المسلحة تحمل في داخلها كل تناقضات المجتمع بكل طوائفه (32).
لقد تم تجاهل الواقع الاقتصادي – الاجتماعي بكل ما تضمنه من مشكلات معقدة أمكنها في ظل النظم السياسية التي استمرأت احتكار السلطة وغيبت القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى أن تأتي بنتائج عكسية أفرزت المزيد من المشكلات وترتب على ذلك أن فشلت معظم الدول النامية في أن تمتلك ضبطا أو رقابة حقيقية على المؤسسة العسكرية مما أدى إلى تعاظم قوة العسكريين ودورهم السياسي (33 ).
وفي إطار التركيز على « الاحتراف « الذي هو احد مقومات السيطرة المدنية في الأنموذج الليبرالي وضع « روبين لوكهام « إطار تصوريا ذهب من خلاله إلى « أن القوات المسلحة نظام اجتماعي (Social System) في حد ذاته له حدوده المميزة والتي عن طريقها يتم التعامل مع البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة به الأمر الذي يجعل دور المؤسسة العسكرية دورا محكوما ويعزز بالتالي العقيدة الأساسية للجيش المتمثلة في « الاحتراف « (34 ).
وقد حدد لهذا الغرض ثلاثة مؤشرات أساسية هي : (35 ).
1) وجود بعض العناصر والمتغيرات مثل : –
أ- شكل التسلسل الهرمي Shape Hierarchy
ب- نماذج التجنيد.
ج- التدريب .
د- التركيب العمري .
هـ- النظم .
2) أن أي نظام يجب أن تكون له حدود مميزة أما عن حدود أية منظمة عسكرية فإنها تبدو حقيقة اجتماعية وتتمثل في : –
أ – بوابات الثكنات العسكرية .
ب – قاعات الطعام للعسكريين .
ج- الملابس العسكرية المميزة .
3) أن تلك الحدود المميزة للمؤسسة العسكرية كتنظيم اجتماعي تعمل على ضبط عملية العلاقة التي تربط بين المؤسسة العسكرية والبيئة السياسية مما يقوي من اتجاه الاحتراف داخل المؤسسة العسكرية .
ومما لا شك فيه أن المتغيرات والحدود المشار إليها هي هامة ولازمة لأية مؤسسة عسكرية وفي أي زمان ومكان إلا أن التعامل معها باعتبارها كافية لتنظيم وتقنين تفاعلات القوات المسلحة مع البيئة السياسية والاجتماعية وأنها كفيلة بضبط الدور العسكري والتحكم فيه هو أمر يحتمل الكثير من الشك ذلك أن المتغيرات التنظيمية والحدود المؤسسية قد تم التعامل مع المؤسسة العسكرية من خلالها كما لو أنه قد تم وضع أفرادها في جزيرة معزولة وأن صلتهم قد انقطعت أو يمكنها أن تنقطع عن كل ما هو خارج تلك الحدود.
إن المتغيرات المشار إليها لازمة للشكل التنظيمي وضرورية لعمل ونشاطات المؤسسة العسكرية من الناحية المهنية ولكنها لا تمنع التدخل العسكري أما الحدود المميزة فإنها رغم واقعيتها حدود وهمية بالنسبة لموضوعي « الاحتراف « و» التدخل « خاصة عندما نعرف أن مجموعة من أعضاء المؤسسة العسكرية تتآمر على مجموعات أخرى داخل نفس تلك المؤسسة وتخطط لقتلها إن لزم الأمر وتستعد لتنفيذ عملية القتل وأن اتجاه تلك المجموعات نحو قتل مجموعات أخرى غالبا ما يتم بالاتفاق مع ممثلين لـ « فئة « أو « طبقة « اجتماعية من خارج حدود المؤسسة العسكرية.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن ثمة تفاعلات بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية تفرضها متطلبات الجانب المهني إلا أنها غالبا ما تتجاوزه في نهاية المطاف وأبرز نماذج تلك التفاعلات هو ما يتصل بتجهيز القوات المسلحة بالأسلحة والعتاد الحربيين اللازمين لرفع مستوى القدرات القتالية فإذا ما علمنا أن المصدر الأساسي لتلك التجهيزات هو الدول الصناعية في العالم المتقدم فإن إتجاه الدولة فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية لا بد وأن يمر عبر المؤسسة العسكرية التي يتحتم أن يكون لرأيها وزن لا بد وأن يوضع في الحسبان.
كما أن السياسة الخارجية لأية دولة لا بد وأن تعكس توجهات