حين يتحرك الماضي ليضعف الحاضر

عبد الرحمن مراد


عبد الرحمن مراد –

جواب العصور المجموعة الشعرية الحادية عشرة للبردوني صدرت عام 1991م وقد حملت عنوان إحدى قصائدها التي تتحدث عن شخصية من عموم الشعب يسمى زيد منسوبة إلى أحدى المناطق اليمنية وهي وصاب فزيد الوصابي موضوع القصيدة هو عموم الشعب اليمني الذي ظل يكدح وراء « لقمة العيش « منذ الأزل وتستهل القصيدة بذكر « السوق « كرمز للوضع الاقتصادي الذي يعاني منه ذلك المواطن المسكين وتتحدث القصيدة عن ضيق ذات ليد وعوامل إغراء السوق في مقابل عجز مضني في القدرة الشرائية وتصف مقاطع القصيدة الأولى مشاهدا لعلها تتكرر بصفة شبه دائمة في الشارع على امتداده وتتنازع النص ثلاثة ضمائر هي « الأنا « الشاعرة هو أنت « لتأكيد صفة التلازم وواحدية الهم والمعاناة بين « الأنا « وبين المتلقي ويتجلى ذلك في :-

ما الذي تبتاع يا زيد الوصابي
هل هنا سوق سوى هذا المرابي
وفي قوله :-
سوف تلقى سبهم يا ليتهم
أحسنوا احدوثة حتى سبابي
كل يوم لا ترى ما ترتضي
ثم تغضي آبيا أو غير آبي
أما الأنا الشاعرة فتتجلى بوضوح في :-
هل أنا أسمعت حيين فلو
صحت هل يستوقف السوق اصطخابي
قل لماذا جئت يا زيد إلى
هذه الأنقاض ¿ أجتر اخترابي

من خلال الأمثلة التطبيقية تتجلى « الأنا « وتتوارى وعندما تتجلى تحمل صفات الرافض الذي يطغى عليه الواقع كقوة قهرية تعيقه عن تحقيق آمال ثوريته .
وشعور « الأنا» بالهزيمة أمام هذا الواقع تفسره بعامل زمني وذلك بالعودة إلى الماضي وإلى البدايات الأولى :-

كنت في عصر البراءات بلا
درهم أهني طعامي وشرابي
في متاه ( الشنفرى) أذهلني
عن نداء الجوف دفعي وأنجذابي
قلت يا صحراء خذي جمجمتي
فأجابات : هاك ليلي وذئابي
تحت بند الفتح أرضعت المنى
أرخت الريح يديها لاحتلابي
صرت عند «اليعفري» منتدبا
للمهمات التي فوق انتدابي
همت في أيام (فيضي ) مفلسا
وبفلس أشتري ملئ وطابي
جئت هذا العصر أحدو جثتي
لا أرى لوني ولا شم ملابي
أين يا أرض الذي تطوينه
تحت نهديك ¿ أشميت إضطرابي
في ثمانينات هذا القرن لا
أنجبت شمسي ولا جادت سحابي

فرؤية البردوني الفلسفية في بعدها الزمني تحاول أن تكشف الإرث الحضاري « لزيد الوصابي « إذ أن الماضي يزحف إلى الحاضر ويعيد انتاج نفسه في المجتمعات التقليدية كما يرى ذلك « ألفين توفلر» ولعلنا نستشف أن الماضي مازال يشكل معادلة صعبة مع حاضر ( زيد الوصابي ) و هذا يعني توقف دورة الزمن و الحضارة و تراجع اندفاعات الإبداع و التطور الإنساني»

يا ( وصابي ) والدي يحتلني
وجهه من داخلي يرخي حجابي

فالاحتلال هنا احتلال زمني ماضوي مازال يشكل ملامح الحاضر و يعيد إنتاج نفسه في أعماق « الأنا « و ما زال يرخي الفواصل الزمنية المتسلسلة في ذاكرة التاريخ بما يحمله من دلالات ثقافية ما زالت جزئياتها تتغلغل في أسلوب تعاملنا مع واقعنا وثقافتنا العصرية :
كلما مريت قالوا : بنت مـــــن ¿
من أبوها ¿ عنبسي بل شـــــوابي
يا طريق البيت هذا أسمي هدى
من هدى ¿ يا بنت شعسان الربابي
أنت يا زيد الذي أشكــيــتــــها
بل شكت مأساة أختي و اغترابي

و في النص تحليل لواحدية الهم الذي يمتد عبر عصور حضارية متعاقبة فسره في بداية النص بدء من عصر الرخاء الذي وصفه بعصر البراءات مرورا بالعصر الجاهلي الذي يحمل مدلوله « الشنفري « و انتهاء بثمانينات القرن الماضي التي بدت المعاناة فيه بشكل أدهى و أفظع و قد أسهب الحديث عنها و فسرها بالإرث الثقافي الممتد :

و قلت زيدي خمسة قالت أبي
كان أيام الصليحين جابي
قلت هل هذا تراثي ¿ ضحكت
و أضافت و تراثي و اكتسابي

كل تلك الانكسارات الحضارية في المفاهيم و المعتقدات أوهنت « ألانا « الشاعرة في إعادة صياغة الأشياء :-

إنتبه يا زيد قف .. سيارة
المنايا و المنى أحلى كعابي
خنتني يا زيد كم أضعفتني
مذ تخيرت من المعهد اصطحابي

ألا تبدو « ألانا « الشاعرة هنا آصرة تجمع بين التاريخ و الحضارة لتكشف كيف يتحرك الماضي كي يضعف الحاضر و المستقبل لذلك تنكفئ على ذاتها و تبدع عالمها وفق تطلعها و فنيتها .. و تصورها الأكثر تحررا :

إنني أبدع مني عالما لا تلاقي
فيه محبوا و حابي
ليس فيه محكوم و لا
أي حكم عسكري أو نيابي

و لعل امتداد نفس النص ( 108بيت شعري ) جعل الشاعر يفسر الظاهرة من أك

قد يعجبك ايضا