رؤية للتأمل عدن وصنعاء 

الدكتورة رؤوفة حسن


الدكتورة/ رؤوفة حسن

د/ رؤوفة حسن  
خلال السنوات العشرين الماضية اعتدت في احتفالات عيد الفطر أو عيد الأضحى أن اكتب عن تفاصيل رحلتي العائلية إلى عدن. وكان ذلك نوعا من أدب الرحلات وسجل الذكريات وتتبعا سنويا للتطورات. وكانت كلماتي عن عدن تنضح بالحب والشوق للمدينة وأهلها لا يحتاج مني إلى كثير من التفسير. فهذه المدينة قد رافقت أحلامي منذ زيارتي لها عام 77م فلم أتوقف عن الحلم بالعودة ولقاء المحيط والاجتبار بالأصدقاء التي لم تفتر صداقاتنا وجود الدولتين ولا غيرت خواصها وجود دولة واحدة.
وكان هناك بعد آخر يبرز أحيانا فيشترك في مشاعري التي أحملها لباريس المدينة التي قضيت فيها خمس سنوات من عمري اتعلم اللغة ثم احضر الدكتوراه ومدينة القاهرة التي اخذت حيزا كبيرا من تفاصيل نموي الفكري والعقلي والحضاري خلال دراستي لبكالوريوس الإعلام بجامعة القاهرة ومدينة إب الخضراء التي قضيت فيها مع أسرتي سنوات طفولتي حتى انهيت الرابعة ابتدائي وأخيرا مدينة صنعاء التي بها ولدت وفيها واجهت سنوات العمل الأولى واستمرت حتى اليوم تلتهم عرقي وجهودي. هذا البعد هو حالة التناغم مع السكان القدماء لكل المدن التي احببت.
هذه السنة أكتب أيضا عن عدن دون أن أكون ذهبت لقضاء العيد هناك ولا كنت أنوي أن أفعل وأربط ذلك ببعض متعلقات العيد في مدينة صنعاء.
ما الذي تغير ياعدن¿:
كنت مرة قد كتبت عن الدحبشة وتعاملت معها كقضية تشبه ماحدث بعد الحرب الأهلية في أمريكا عندما تم إطلاق لقب الديكسي على سكان الجنوب الأمريكي واليانكي على سكان الشمال الأمريكي وهما الفريقان اللذان تقاتلا بشأن قضايا مختلفة من بينها قصة العبيد.
فهذه التسميات اليوم هي جزء من التاريخ الذي يكتبه الناس لتوثيق مرحلة ثم يستخدمه الكتاب حسب توجههم فالمؤرخون قد يستخدمونه لرصد مرحلة والإعلاميون وعلماء الاجتماع والدلالات قد يستخدمونه لرصد طرق التعبير المجتمعية والكوميديون يستخدمونه للسخرية من الماضي أو لبعث الضحك في جمهورهم المستهدف.
أما اليوم فقد صار مصطلحا شبه سري لا يتم النطق به علنا كي لا يعبر عن أي شكل من التمييز أو الانفصالية أو العرقية أو التفرقة. لكنه كامن هناك يتغلغل في الأعين ويخرج مضمونه في بعض الممارسات حتى صار محبا مثلي لا يطيق النفاق والأكاذيب يكره التعامل حتى مع حالة استثنائية واحدة خلال فترة استراحة وعطلة. فأنا امرأة أعيش واقعا يوميا يقوم على التفرقة تتثبت هويتي شئت أم أبيت بمكان الولادة ومذهب الوالدين ولون البشرة وحروف اللهجة وتضاف هذه الأيام الانتماءات الحزبية ولم أعد في حاجة إلى المزيد.
ومع ذلك فقد ذهب معظم أفراد أسرتي لقضاء إجازتهم في عدن كعادتهم ولكن بمواصلات مختلفة عن العادة فالبعض ذهب بالطائرة رغم الكلفة الزائدة والآخرون بالباص وقلوبنا تتابع والهاتف لا يتوقف عن معرفة مدى نجاتهم من حوادث الطرقات المريعة ومن حوادث التقطع في الخط الرئيسي مرات كثيرة.
لقد استأجروا هناك مواصلات محلية كي يتجنبوا إحضار سياراتهم لأننا قد حدث أن أوقفنا أحدها في سوق وعندما عدنا اليها كان بعض التخريب لها قد حدث. في الظروف العادية سنفكر في مشاغبين أو أطفال لم يتربوا لكن الظروف الحالية تجعل سيناريوهات أخرى هي المسيطرة والإجازة هدفها الراحة لذا فالخلاص من السيارة يأتي من باب سد الريح واستريح.
صنعاء التي ليس لها محب:
كان الشاعر البردوني قد اشهر عن صنعاء بيتا يقول انها(مليحة حسناء عاشقاها السل والجرب) وهذه القصيدة على أي حال كانت تصف مأساة أبناء اليمن بجنوبها والشمال ولكن حال صنعاء اليوم مع ساكنيها مدعاة للرثاء فحتى السل والجرب الذي يزحف عليها بزيادة سكانية من كل مكان تصل إلى مليون ونصف فوق عدد سكانها القدماء يتنكران لها ويخفيان عشقهما لترابها الذي اخذاه ولم يبق لنا نحن الذين كانت صنعاء في حياتنا دورا وطيورا وأشجارا ومساحات خضراء تغمر الواصلين برائحة الورد والريحان والبردقوش سوى الذكريات.
هؤلاء الذين يعيشون فيها ويبنون ويمتلكون ويسكنون ويعبثون بعاداتها ويحولونها ريفا ويزحفون عليها بعادات غير متجانسة وتصورات للحياة مختلفة يعلنون دوما عن حبهم لمكان آخر. فالتعزي في صنعاء يتغزل في تعز والحديدي في الحديدة والعدني في عدن والحضرمي في الساحل أو الوادي وصنعاء فاتحة الصدر والقلب وحضن الجميع ولا يتكرم بالحديث عنها بغير الغضب والنكران أحد.
هذه السنة رغم ظروفي الصحية أعلنت حبي للمدينة وبقيت فيها سمعت أغانيها والتقيت براقصيها وشربت من مائها المبخر وتلقيت العسب (العوادة) ممن زارني من رجال الأسرة ورددته لأبنائهم وكنت قد كففت عن توقع زياراتهم لأن العيد يأتي ونحن في عدن أو الخوخة. لمدينتي الحب وكل عام وأنتم في صنعاء بخير وحلمنا أن تعلنوا حبكم للمكان الذي تعيشون فيه الآن.

قد يعجبك ايضا