
محمد عبدالله السيد –
لاقت ثورة سبتمبر عواصف عاتية من كل اتجاه لكنها ولدت لتبقى فجاء الدعم العربي من القاهرة بقيادة الزعيم المناضل جمال عبدالناصر فكان مصير هذه الثورة والحفاظ عليها شغل عبدالناصر الشاغل في الأيام والسنوات التي تلت قيامها. وكما رأيناه يدافع عنها بالدم والمال والسلاح فقد رأيناه وسمعناه أيضاٍ يدافع عنها بالكلمة. وكان في السنوات الأولى من عمر هذه الثورة لا يلقي خطابا ولا يْدلي بحديثُ للنشر إلا كانت ثورة ٦٢ سبتمبر جوهر ذلك الخطاب أو هذا الحديث أو جزءاٍ هاماٍ فيه حيث من الصعوبة تتبع كل ما جاء في خطابات وأحاديث الزعيم جمال عبدالناصر عن هذه الثورة. جمال عبدالناصر الرجل الذي تلخصت به أحلام أمة بأسرها الزعيم الذي أرتبط اسم الوطن باسمه كما لم يرتبط اسم الوطن بزعيم قبل . المعلم الذي عمر الوجدان بالثقافة والقيم الفاضلة. الأب الذي ملأ القلوب الخائفة بالأمن الرائد الذي فجر من الجوانح عزة الكبرياء . رجل الدولة الذي فرض على العالم هيبة العرب. وبحسب فيلم وثائقي عن القائد العربي فإن الزعيم الراحل خلال زيارته إلى اليمن في شهر إبريل 1964م وقف متحدثاٍ إلى الضباط والجنود متحدثاٍ إليهم مفتوح القلب والوجدان وذكرهم بماضيهم البعيد . ولم ينس ذلك المستعمر الأجنبي في الجنوب» بريطانيا» . ثم أنه يعاهد الله على طرد هذا المستعمر من كل أرجاء الوطن العربي. قائلاٍ مقولته الشهيرة» على بريطانيا أن تأخذ عصاها وترحل من عدن». سوف يظل دور الزعيم عبدالناصر في ثورة سبتمبر رمزاٍ حياٍ ليقظة الضمير العربي الحي كل ما يْبشر به من صحوة القومية ومن شجاعة التضحية وشرف النجدة ونبل العطاء.
عندما قامت ثورة سبتمبر كانت وحيدة في مواجهة عواصف عاتية من كل اتجاه فطلبت نجدة مصر حينها كان السؤال الذي طرحه الزعيم جمال عبدالناصر آنذاك لاتخاذ القرار حول المساندة المصرية بمختلف صورها هو: هل نترك ثورة اليمن وحيدة يسهل ضربها أو إجهاضها¿ وماذا سيكون عليه حال الأمة العربية إذن¿ . لقد اتخذ الزعيم جمال عبدالناصر قرار دعم الثورة اليمنية من منطلق مسئولية مصر ودورها القومي. كما أن قرار القاهرة بالوقوف وراء ثورة سبتمبر لم يكن قرارا انفعاليا اتخذه الرئيس عبدالناصر كما صوره البعض بعد ذلك لمجرد التجاوب مع حركة ثورية في أكثر من مناطق العالم تخلفا ولم يكن مجرد رد فعل لنكسة الانفصال مع سوريا سعى عبدالناصر عن طريقها إلى استعادة التوازن لصالح التيار القومي أو محاولة للانتقام من الرجعية العربية بل كان القرار- بحسب شهادة سامي شرف- متسقا مع ممارسات عشر سنوات مضت من عمر ثورة يوليو. حيث كانت اليمن حاضرة في تفكير ثوار يوليو منذ فترة مبكرة جدا من عمر الثورة.
لقد أدرك الزعيم جمال عبدالناصر حجم المؤامرة الهادفة إلى القضاء على ثورة سبتمبر والنظام الجمهوري. كما كان يدرك تماماٍ الأخطار الجسيمة المترتبة على نجاح مشروع إجهاض ثورة الشعب اليمني في جنوب الوطن ضد الاستعمار البريطاني خاصة وأن الثورة في الجنوب كانت في بداياتها المخاضية مطلع عام 1964م وفي نفس الوقت كان عبدالناصر يدرك حجم الصعوبات التي تكتنف قرار دعم الثورة في اليمن كما كان يعي تماماٍ المحاذير الجمة التي تترتب على ذلك. لكنه مقابل كل ذلك أصر على دعم الثورة السبتمبرية. فكانت اليمن في الثاني والعشرين من إبريل 1964م على موعد مع زيارة تاريخية زلزلت أعداء الثورة في الداخل والخارج قام بها القائد العربي جمال عبدالناصر الذي هدف من ورائها إلى تحقيق جملة من الأهداف التي نجحت في تثبيت النظام الجمهوري وأفزعت المستعمر الأجنبي في جنوب الوطن.
القوى المعادية وقرار ناصر «الجسور»
❊ يؤكد الكاتب المصري عمرو صابح على أن الثورة اليمنية تكالبت عليها الكثير من القوى المعادية عززها مناخ إعلامي معادُ لهذه الثورة وقائدها. مناخ إعلامي حاول جاهداٍ تشويه القرار الجسور الذي أتخذه جمال عبدالناصر في دعم الثورة في اليمن. يقول الكاتب عمرو صابح (لم يحظ قرار من قرارات الرئيس عبدالناصر بانتقادات واسعة وهجوم شرس مثل قرار مساندته لثورة اليمن التي اندلعت في 26 سبتمبر 1962م فقد تم اتهام عبدالناصر أنه بدد احتياطي مصر من الذهب هناك . وخرب الاقتصاد المصري وضحى بأرواح عشرات الآلاف من الشباب المصري على سفوح جبال اليمنوأن وجود جزء من الجيش المصري في اليمن «50 ألف مقاتل « كان هو السبب الرئيس في كارثة يونيو 1967م.
وهكذا أصبحت مساندة مصر لثورة اليمن هي سبب كل النكبات والمشاكل وفى ظل مناخ إعلامي معادُ للثورة وقائدها راج هذا الكلام وشاع وأصبح من المسلمات». ويضيف: «ولكن بكثير من التدقيق ومحاولة قراءة ما وراء السطور سنكتشف معا زيف كل تلك الأقاويل بل سنكتشف أن ترويجها له هدف آخر هو تشويه ذلك القرار الجسور وجعل تكراره من المحرمات وإصابة الشعب المصري بعقدة ذنب وعاهة نفسية من مجرد ذكر تاريخ مصر في اليمن في عهد جمال عبدالناصر وهي ليست أكثر من مجرد أكاذيب».
عبدالناصر يتصدى للمؤامرات الشرسة ضد ثورة سبتمبر
❊ يْجمع الباحثون والكتاب على تعرض ثورة الـ26 من سبتمبر لأصناف المؤامرات والاعتداءات سواءٍ من أعداء الخارج أو الداخل. ولا سيما في الشهر الخامس عشر للثورة. وضع دفع القائد العربي جمال عبدالناصر إلى سرعة الدعوة لعقد أول مؤتمر عربي في القاهرة شهر يناير 1964م بهدف التصدي للمخاطر والمؤامرات التي تْحاك للأمة العربية على رأسها كانت قضية الثورة اليمنية والمحاولات الإسرائيلية لتحويل مجرى مياه نهر الأردن. فقد كانت قضية اليمن بشقيه الجمهوري في الشمال والاحتلال البريطاني في الجنوب’ في صدارة هذه المخاطر والتحديات التي تبحثها أول قمة عربية.
وكان من نتائج ذلك تغيير موقف المملكة الأردنية الهاشمية حيث أبدت ميلاٍ إلى تأييد النظام الجمهوري كما خرج بيان المؤتمر بضرورة إزالة التوتر الشديد بين الجمهورية العربية اليمنية والجمهورية العربية المتحدة (مصر) من جانب وبين المملكة العربية السعودية من جانب آخر . لقد أدرك الزعيم جمال عبدالناصر حجم المؤامرة الهادفة إلى القضاء على ثورة سبتمبر والنظام الجمهوري. كما كان يدرك تماماٍ الأخطار الجسيمة التي المترتبة على نجاح مشروع إجهاض ثورة الشعب اليمني في جنوب الوطن ضد الاستعمار البريطاني. خاصة وأن الثورة في الجنوب كانت في بداياتها المخاضية مطلع عام 1964م.
عبدالناصر يطير إلى اليمن ويبعث رسائل للخارج والداخل
❊ كانت اليمن في الثاني والعشرين من إبريل 1964م على موعد مع زيارة تاريخية زلزلت أعداء الثورة في الداخل والخارج قام بها القائد العربي جمال عبدالناصر الذي هدف من ورائها إلى تحقيق جملة من الأهداف التي نجحت في تثبيت النظام الجمهوري وأفزعت المستعمر الأجنبي. فمن منطلق فهمه لحجم ما يتعرض له شطرا اليمن من مؤامرات وأخطار ولرفع معنويات الجانبين واستنهاض هممهما في الدفاع عن الثورة السبتمبرية وتثبيت النظام الجمهوري ومن أجل مواصلة ثورة 14 أكتوبر في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني كانت زيارة الرئيس جمال عبدالناصر للجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من إبريل 1964م .
عبدالناصر..في صنعاء
❊ سجل التاريخ بأحرف من نور تلك الزيارة العظيمة التي قام بها عبدالناصر إلى صنعاء حيث صافح الجماهير اليمنية المحتشدة بمختلف طبقاتها وشرائحها. فقد التقى بالقبائل والعلماء والموظفين والعمال والمزارعين والتجار وأفراد القوات المسلحة والشباب . حيث تحدث إلى الجماهير بقلب كبير ومفتوح مْذكراٍ الشعب اليمني بماضيه المشرق والمشرف قائلاٍ في إحدى لقاءاته (كانت اليمن معين الثورة ضد الطغيان وضد الاستبداد وضد السيطرة) وقال: (كان لليمنيين الدور في نشر الإسلام في شرق وجنوب آسيا .. وسطها وشمالها).
وأضاف: (حينما كنت ازور مناطق في مختلف أنحاء آسيا .. كنت أسمع منهم أن الإسلام وصل إلى هنا بواسطة اليمانيين).
وفي تعز
❊ ولم يكتف عبدالناصر بزيارة صنعاء فقط بل حرص على زيارة محافظة تعز كونها أقرب نقطة إلى الجنوب المحتل فخاطب الجماهير مْلهباٍ حماسهم مؤكداٍ لهم مواصلة الدور المصري في دعم الثورة اليمنية والانتصار على المؤامرات. وأشاد بنضالهم الكبير. وأمام عشرات الآلاف القى خطاباٍ تاريخياٍ لا يزال اليمنيون يتغنون به خطاباٍ قابلته الجماهير المحتشدة بالتصفيق الحار والدموع والأهازيج. حتى وصلت مشاعر الحب والحماس لهذا الزعيم العربي إلى حمل سيارته على الأعناق في مشهد لن ولم يتكرر مطلقاٍ. خاصة بعد أن عمد الزعيم العربي إلى توجيه عدة رسائل إلى المستعمر الأجنبي في الجنوب الحبيب.
فأمام عشرات الآلاف التي احتشدت في ميدان (العرضي) في تعز للقائه قال جملت++ه الشهيرة التحذيرية لبريطانيا:(إن بريطانيا لابد وأن تجلو عن عدن – إن كلاٍ من عدن والجنوب ارض عربية وانه من المستحيل تماماٍ على بريطانيا أن تفرق بين عرب وعرب أو يمنيين عن يمنيين) .
ثم قال جملته الأشهر التي حملت في طياتها إنذارا صريحاٍ وجازماٍ ودعماٍ معنوياٍ عالياٍ لثوار الجنوب المحتل: (إن بريطانيا التي تنظر إلى ثورتكم بكراهية وحقد يجب أن تحمل عصاها على كتفها وترحل من عدن إننا نعاهد الله على هذه الأرض المقدسة أن نطرد بريطانيا من كل جزء من الوطن العربي) .
وأضاف: (ولقد بذلنا الدماء وضحينا بالأرواح وحققنا النصر وسنبذل الدماء ونضحي بالأرواح ونحقق النصر في اليمن كما حققناه في مصر) .
خطاب عبدالناصر يلهب حماس «الثوار في الجنوب»
❊ يؤكد الكثير من الخبراء والمحللين على أن خطاب عبدالناصر في تعز نجح نجاحاٍ كبيراٍ في رفع معنويات الثوار في جنوب اليمن المحتل كما عمل على إزعاج المستعمر الأجنبي . فقد تصاعدت الهجمات على قوات الاحتلال واكتسبت ثورتهم زخماٍ وازدادت ثورة تحرير الجنوب اشتعالاٍ وقوة. ففي شهر واحد فقط «مايو» 1964م سقط العشرات من الجنود كما اتجهت أنظار العالم نحو ردفان في ثورتها. وأرسلت بريطانيا الكثير من النجدات المتمثلة في الكتائب إلى عدن لتعزيز جيشها بعد أن تبين أنه غير قادر على مقاومة الثوار والمتمردين. حيث قال: (أيها الإخوة الثوار ..رأيت الشعب اليمني فيكم اليوم تتمثل القوة والعزة والثورة والحرية..هذا الشعب اليمني الذي صمم على الحرية فثار ونصره الله.. وحقق له العزة والكرامة والحرية ..أيها الأخوة الأعزاء ..كان اليمني دائماٍ رافع لواء الإسلام ورافع لواء الحرية في مشارق الأرض ومغاربها حتى تكبل عليه الأئمة فأذاقوه صوت العذاب وحبسوه بين حدوده ومنعوه من أن ينشر رسالة الحرية والإسلام في العالم . فهل استكان الشعب اليمني¿ أبداٍ لم يستكن الشعب اليمني..بل ثار دائماٍ على الذل والعبودية وعلى حكم الاستبداد وحكم الإرهاب حتى قامت طليعة الشعب اليمني في يوم 26 سبتمبر سنة 62م قامت لتدك معالم الظلم ولتدك الرجعية والاستبداد وأراد الله لها أن تنتصر فانتصرت وكان انتصارها انتصاراٍ لكم جميعاٍ . أنتم شعب اليمن الذي صمم دائماٍ على الحرية فقاتل وكافح دائماٍ من أجل الحرية. أيها الأخوة أنتم شعب يمني واحد أراد الاستعمار أن يْفرق بينكم وأراد أن يجعلكم شيعاٍ وأحزابا ولكن إرادة الله وإرادتكم كانت فوق إرادة الاستعمار . ولم يفلح الاستعمار ولم تفلح الرجعية في أن تقسمكم وان تفرق بينكم . واليوم نحن نعلنها للجميع بأن بريطانيا ومنذ عدة أشهر ترسل الأسلحة لكي تضرب ثورتكم ولكن الأسلحة لم تستخدم ضدكم بل ارتدت إلى صدور الاستعمار وإلى أعوانه. لن نمكن الاستعمار من أن يبقى في أي جزء من أرض الأمة العربية ولابد للاستعمار ولابد لبريطانيا التي تنظر إلى ثورتكم بكراهية لابد أن تحمل عصاها وتخرج من عدن).
هيكل: عبدالناصر بدا وسط زحام البشر بصنعاء كأنه «شراع وسط البحر الواسع»
❊ وحول زيارة عبدالناصر إلى اليمن يصف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أجواء هذه الزيارة انطلاقا من تجربته ومعايشته للحدث بقوله:
- لقاءات جمال عبدالناصر – على سبيل المثال – مع جماهير الشعب اليمني من سكان المدن وأهل القبائل في شمال اليمن وفى الجنوب حين كان عبدالناصر يبدو وسط زحام البشر كأنه شراع وسط البحر الواسع الممتد! ولقد كان كل الذين يراقبون الصورة الحية والرائعة لا يصدقون ما يرون وأذكر مرة في ميدان التحرير بصنعاء وجمال عبدالناصر محاط وسط الميدان الفسيح بعشرات الآلاف أن «جورج ماك آرثر» مراسل وكالة الأسوشييتدبرس العالمية قال منفعلاٍ وعينه على الصورة الحية الرائعة أمامه: (رباه أليس هناك مسئول واحد عن الأمن يقول لهذا الرجل أنه مهما بلغت ثقته بهؤلاء الناس الذين ترك نفسه وسطهم فليس ينبغي له أن ينسى أن كل واحد منهم – بحكم تقاليد اليمن – يعلق على كتفه بندقية ويحمل في وسطه خنجرا)!
وصورة باقية أخرى – على سبيل المثال – حين دخل جمال عبدالناصر إلى نادي ضباط الطيران في صنعاء كان وسط خلاصة الخلاصة من شباب مصر وكانوا جميعاٍ رموزاٍ مدهشة للشجاعة والشباب. وحين دخل إلى القاعة الكبيرة من ناديهم كان ترحيبهم به خمس دقائق متصلة من التصفيق الذي لا يهدأ ولا يتمهل. وتحدث إليهم بعد العشاء وكانت جوارحهم كلها معه ثم تحدث الرئيس السلال إليهم ليقول لهم أنهم وطائراتهم كانوا أمله في الأيام الأولى من المعركة وأنه يأسف إذ ضايقهم بالبقاء فى قاعدتهم الجوية في الروضة يتابع مع الساعات نشاطهم فوق جبهات القتال المتعددة وكان يضحك معهم لذكريات تلك الأيام وكانوا يضحكون معه ثم طلبوا إلى عبدالحكيم عامر أن يقول بدوره كلمة ولم يقم عبدالحكيم عامر من فوره إلى الكلام وإنما حاول أن يثنيهم عن الإلحاح عليه لكن تصفيقهم طلباٍ له لم ينقطع ووقف وابتسامة حب تملأ وجهه يحاول أن يشدها بتعبير عتاب يقول لهم:
- ماذا تريدون أن تسمعوا مني… هل تريدون أن تسمعوا أنى فخور بكم.. ليكن اسمعوها مرة أخرى… لست وحدي الفخور بكم أمتكم كلها تعيش بالفخر معكم!.
هيكل: دخول عبدالناصر تعز صورة تاريخية لتلال القدس تستقبل قديساٍ عائداٍ اليها
❊ ثم صورة ثالثة على سبيل المثال – فى منظر دخول جمال عبدالناصر إلى مدينة تعز. كانت الصورة لا تكاد تصدق كأنها لوحة تاريخية لتلال القدس تستقبل قديساٍ عائداٍ إليها. إن «تعز» فيها الكثير من الشبه بالقدس والطريق إليها مثل الطريق إلى القدس يمتد على الوادى بين التلال التي تتناثر فوقها الخضرة. وحين اقترب جمال عبدالناصر من «تعز» تدفق أهلها على سفوح التلال متدافعين إليه على الطريق في قلب الوادي. وكانت طبولهم تدق ودعاؤهم وصلواتهم تتجاوب مع دقات الطبول وأشكال القادمين على السفوح وأزياؤهم هي أشكال وأزياء قرون طويلة مضت وحتى سحب الغبار التي أثارتها الأقدام الزاحفة إلى قلب الوادي كانت لوناٍ مؤثراٍ فى لوحة التاريخ العظيمة عند دخول «تعز».
ثورة يوليو تدعم ثورة سبتمبر «دون تردد»
❊ يقول الكاتب سامي شرف: لقد اتخذت القاهرة قرارها دون تردد في مساندة الثورة بمجرد تعرفها على أسماء قادة الثورة التي كانت في الأصل تعرفهم مسبقاٍ. فقد استنجدت الثورة الوليدة بالقاهرة لتنفيذ وعدها بالمساندة حسب قرار مجلس الرئاسة المصري الذي كان قد أتخذ بالإجماع وفى خلال أيام كانت وحدات من قوات الصاعقة المصرية تصل إلى اليمن .
لقد كان هذا القرار يمثل التزاما عقائديا للمبادئ التي قامت عليها الثورة الأم في مصر واستمرارا لنفس الدور الذي سبق القيام به نحو الجزائر وسوريا والعراق وكل حركات التحرر التي احتاجت للمساعدة والمساندة باعتبار أن الحرية العربية لا تتجزأ والدفاع عن حقوق شعب عربي هو دفاع عن حقوق الأمة كلها . لقد كان واضحا بعد مؤامرة الانفصال بين مصر وسوريا في سبتمبر 1961م أن الاتجاه السائد لدى القوى المعادية للتحرر العربي هو خنق كل صوت ينادى بالتحرر العربي وفى نفس الوقت فإنه كان من المستحيل على مصر أن تمارس دورها إلا في مجالات تأثيرها وتأثرها . وعندما قامت ثورة اليمن في سبتمبر 1962م كانت وحيدة فى مواجهة عواصف عاتية من كل اتجاه وطلبت هذه الثورة نجدة مصر . كان السؤال الذى طرحه الزعيم جمال عبدالناصر آنذاك لاتخاذ القرار حول المساندة المصرية بمختلف صورها هو: هل نترك ثورة اليمن وحيدة يسهل ضربها أو إجهاضها¿ وماذا سيكون عليه حال الأمة العربية إذن¿. وكان الرد بعد دراسة مستفيضة ومناقشات طويلة للإجابة على هذا السؤال يتلخص في الآتي:
أولا: أن أمن ومستقبل الحركة الوطنية العربية معلق فى الميزان .
ثانيا: أن الوقت لا يحتمل التردد وإلا ضاعت هذه الثورة الوليدة وفى هذا الوقت بالذات.
ثالثا: أن تدخل بعض عناصر الصاعقة والطيران كافيان .
ولقد اتخذ هذا القرار من منطلق مسئولية مصر ودورها القومى مستبعدا وجهة النظر الإقليمية المصرية .
ويضيف سامي شرف:» وهنا لابد من التأكيد على أن قرار القاهرة للوقوف وراء ثورة اليمن لم يكن قرارا انفعاليا اتخذه الرئيس جمال عبدالناصر كما صوره البعض بعد ذلك لمجرد التجاوب مع حركة ثورية في أكثر من مناطق العالم تخلفا ولم يكن مجرد رد فعل لنكسة الانفصال سعى عبدالناصر عن طريقها إلى استعادة التوازن لصالح التيار القومى أو محاولة للانتقام من الرجعية العربية التي لعبت دورا حاسما في إنهاء تجربة الوحدة المصرية السورية بل كان -كما ذكرت آنفا- قرارا نابعا من منطلق أخلاقي ومبدئي التزمت به ثورة 23يوليو 1952م . وفى الحقيقة كان قرار الرئيس عبدالناصر متسقا مع ممارسات عشر سنوات مضت من عمر ثورة يوليو. لقد قصدت بهذا الشرح المطول لعلاقة مصر باليمن قبل ثورة 62م أن أوضح أن قرار ثورة يوليو والرئيس عبدالناصر بالوقوف إلى جانب أى محاولة لتحرر الشعب اليمنى قد أتخذ على الصعيد العملي منذ بداية 1953م . . وربما فقط كانت للظروف العربية والدولية التي كانت سائدة في سنة 1962م دورها فى اكتساب قرار الاعتراف والمساندة للثورة اليمنية سمة الحسم والعلنية التي تنفي عن القاهرة أي محاولة للتردد.
أما ما حدث بعد ذلك فقد كتب فيه الكثيرون وتم التعرض لكل تفاصيله بكل ما للتجربة وما عليها لكن ما لا يمكن أن يختلف عليه اثنان أن هذه الثورة قد أحدثت زلزالا في شبه الجزيرة العربية كلها دفعت الاستعمار البريطاني إلى إعادة حساباته واضطر تحت ضغط الحركة الوطنية المدعومة من القاهرة للانسحاب من إمارات وسلطنات الجنوب العربي كله وقيام جمهورية اليمن ودولة الإمارات العربية المتحدة بعد ذلك وأعقب ذلك الانسحاب العسكري من منطقة الخليج العربي أيضا كما دفعت النظم التقليدية في شبه الجزيرة إلى إعادة ترتيب أوراقها وتوجيه قدر أكبر من الاهتمام لصالح تحديث وتنمية شعوبها كما أصبح البحر الأحمر بحيرة عربية خالصة وقبل هذا كله فقد نجحت هذه الثورة في الانتقال باليمن من ظلام العصور الوسطى إلى آفاق القرن العشرين .
ويواصل سامي شرف:» لقد ارتكزت ثورة يوليو فى تخطيط إستراتيجيتها وترتيب أولوياتها على فكرة التحررº كفكرة محورية في كل تحركاتها وجاء الوطن العربي في مقدمة الدوائر التي يجب العمل من أجل تحريرها تمهيدا لوحدتها الشاملة وإقامة نظام للأمن القومي العربي يمتلك عناصر القوة اللازمة لمواجهة التهديدات الخارجية .
وإذا كانت فكرة التحرر تستهدف فى الأساس مقاومة النفوذ الأجنبي في كل صوره وأشكاله فقد كانت مقاومة التخلف فى كل أشكاله أيضا أحد الأهداف الذي رأت فيه الثورة مدخلا ضروريا لإقامة النظام الأمنى المشار إليه وأستطيع أن أقول أنه بالنسبة لهذا الشق الأخيرº أي التصدي للتخلف فقد انتظرت الثورة مبادرة القوى الوطنية فى كل دولة عربية على حدة باتخاذ الخطوة الأولى .. أقول أن هذا الخط كان منهج القاهرة فى كل أرجاء الوطن العربي وذلك باستثناء اليمن فقد جاءت المبادرة الأولى من جانب ثورة يوليو 1952م وليس العكس وكان لذلك ما يبرره لقد كانت اليمن من أشد مواقع الوطن العربي تخلفا وانعزالا عن كل ما يجري في العالم فقد كان يحكمها نظام الإمامة على رأسه أئمة استأثروا بالسلطة الروحية والزمنية لأكثر من ألف ومائة عام متصلة. كانت اليمن تمثل عنصر توازن يستعين به الاستعمار البريطاني في الجنوب العربي المحتل والأنظمة التقليدية الأخرى في شبه الجزيرة العربية كجدار دفاع ضد تيارات التغيير والتقدم القادمة من الشمال العربى وتعتبرها منطقة عازلة بين التقدم والتخلف. وقد كانت هذه القوى – أي الاستعمار البريطاني والرجعية العربية – أقوى مصادر الدعم لحكم الأئمة في اليمن وعامل الضعف الرئيسي في أي تخطيط ثوري يستهدف هذا الحكم ولقد لعبت القوتان أدوارهما فى إفشال عديد من الحركات الثورية التى سبقت ثورة 26 سبتمبر 1962م .
كانت اليمن – ومن وجهة النظر العربية – نقطة ارتكاز حيوية فى الأمن القومي المصري والعربي بحكم موقعها الإستراتيجي فى جنوب البحر الأحمر وفى مواجهة السودان والقرن الإفريقى وباب المندب وأدركت الثورة فى مصر مبكرا أن أي تغيير سياسي في اليمن يمكن أن يحدث ردود فعل إيجابية لصالح حركة التحرر الوطني في الوطن العربي كله.
لهذه الأسباب فلم ينتظر قادة ثورة يوليو قدوم الكوادر الثورية فى اليمن إليهاº بل حرصت هى على الذهاب إليهم وكان ذلك فى العام 1953م.
وعندما فكر الرئيس عبدالناصر فى اتخاذ الخطوة الأولى فى اليمن كان يدرك حجم الصعوبات التى تكتنف هذا العمل º لقد أدرك من خلال ما يصل إليه من تقديرات سياسية وأحاديث الزعامات اليمنية فى القاهرة أن التخلف الرهيب هو نقطة القوة فى حكم الإمام نفسه وإذا كان حكم الملك فاروق فى مصر قد شكل أضعف حلقات الأوضاع فى مصر قبل سنة 1952م فقد كان الحال بالنسبة لحكم الإمام على عكس ذلك فى اليمن حيث مكن هذا الحكم لنفسه على مدى قرون طويلة بكل الوسائل الممكنة كما شرحنا ولم يكن فى اليمن استعمارأجنبي بالمعنى المفهوم الذى يمكن تجميع القوى الوطنية للعمل ضده .
كان الرئيس عبدالناصر يدرك أيضا محاذير العمل فى اليمن خاصة بالنسبة للقوى المجاورة لليمن وعدن والنفوذ البريطاني فى منطقة الخليج وأمام معارك الثورة فى الخمسينيات فلم يكن راغبا أو قادرا على فتح جبهة جديدة تختلط فيها الأوراق العربية بالأجنبية ومن ثم فقد حرص على التعامل مع اليمن بحذر شديد مفضلا توظيف عامل الوقت بأحسن طريقة ممكنة .
ولكن ما أريد أن أقوله فى هذه المرحلة أن دعم مصر لثورة اليمن لم يكن وليد ليلة26سبتمبر 1962م ولم يكن مجرد رد فعل لردة الانفصال وتعبير عن رغبة فى استعادة التوازن لصالح التيار القومي أو انتقام من تآمر القوى الاستعمارية والقوى الرجعية على دولة الوحدة أو غير ذلك من الأسباب التي يتبناها كثير من الباحثين والسياسيين فى أيامنا الحاضرة بل كانت اليمن حاضرة فى تفكير ثوار يوليو منذ فترة مبكرة جدا من عمر الثورة.