الثورة اليمنية.. السلبيات والأخطاء.. والتحديات!!


اعداد/ اسكندر المريسي –

{ كانت الثورة استجابة طبيعية لمنطق التطور ونتيجة منطقية لحركة التاريخ
{ السلبيات المرافقة لمسيرة الثورة أعاقت استكمالها ودورات الصراع السياسي انتجت التخلف الاقتصادي شمالاٍ وجنوباٍ

{ المكايدات وتلاشي صوت العقل أوصلنا لأحداث يناير واغسطس وحساسية اللحظة الراهنة تتطلب استيعاب الماضي لخلق استقرار الحاضر

> يحتفل الشعب اليمني بالذكرى التاريخية لثورة 26 سبتمبر المجيدة بعد مرور نصف قرن على قيام تلك الثورة والتي جاءت استجابة لحركة التطور الطبيعي للمجتمعات البشرية وكانت اليمن في فترة ما قبل تلك الثورة محكومة بالنظام الامامي الذي كانت له فلسفة ورؤية وفقا لزمان ومكان المرحلة التاريخية السابقة والتي انتهت وإلى غير رجعة وأصبحت تلك الفلسفة بكل سلبياتها وايجابياتها في متحف التاريخ الذي استجاب لحركة تغيير شهدها الواقع اليمني في 26 سبتمبر 1962م وانهت نظاماٍ سابقاٍ وجاءت بالنظام الجمهوري الجديد الذي تم بموجبه إعلان الجمهورية العربية اليمنية كدولة مستقلة وذات سيادة وطنية وكان بالتأكيد ذلك التحول الذي طرأ قد تأسس على ست قضايا اساسية ورئيسية أو ما عرف بالاهداف الستة المتمثلة بالتحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات وكذلك إنشاء مجتمع عادل ومستقر وبناء جيش وطني قادر ومقتدر على حماية البلاد وحفظ النظام الجمهوري فيما اعتبرت تلك الثورة في مجمل أهدافها الستة استعادة تحقيق الوحدة الوطنية في إشارة واضحة حينها للوحدة اليمنية وذلك في نطاق الوحدة العربية الشاملة واحترام مواثيق وتعهدات والتزامات الدول خاصة ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
اعداد/ اسكندر المريسي

الثالوث
فقد كانت ثورة 26 سبتمبر الخالدة تجسيدا لرغبة حقيقية كانت تراود اليمنيين بالخروج من الثالوث الرهيب المتمثل بالجهل والفقر والمرض وكانت تلك الرغبة تتجه بكل تأكيد نحو بناء دولة حقيقية تحمي ولا تهدد تصون ولا تبدد وتكون عند مستوى تاريخ وحضارة الشعب اليمني وعلى مدى خمسة عقود انقضت من الزمن بواقع نصف قرن كما ذكرنا اسرعت تلك الثورة عبر تاريخها الزمني تارة وأبطأت تارة أخرى ومثل أي حدث ايجابي في التاريخ تتخلله السلبيات والايجابيات لم تكن ثورة الـ26 من سبتمبر بمعزل عن الانتصارات والانتكاسات لأن طبيعة الاحداث التاريخية تتداخل مع بعضها البعض على ذلك النحو وإن كانت تلك الثورة قد مثلت بالتأكيد حالة يقظة حقيقية نحو انجاز الآمال والطموحات المشروعة التي عبرت عنها بأهدافها الستة.
لكن كما أوضحنا حصلت تراجعات باعدت بين تلك الطموحات وبين النهوض بالواقع ولا يعني ذلك اغفال جوانب ايجابية قد احرزتها الثورة عبر مسيرتها التاريخية وما نتج عن ذلك من تحولات اقتصادية بدرجة اساسية وكذلك انجازات على صعيد العملية التعليمية لكن عند اجراء مقارنة حقيقية لاستنطاق الواقع وسبر أغواره المختلفة فإن ما تحقق من إنجازات احرزتها ثورة 26 سبتمبر خلال الفترة الماضية لم تكن عند مستوى الآمال والطموحات المشروعة ويرجع ذلك إلى جملة تحديات اعترضت مسيرة تلك الثورة فكان من الطبيعي أن تصيب احيانا في مسيرتها وتخطئ أحيانا كثيرة.
وبالتالي فإن ثورة 26 سبتمبر المجيدة كحركة تاريخية ونتيجة منطقية ترتبت على ثورة 23 يوليو الناصرية وما أوجدته من دور كبير في قيادة مشروع النهوض القومي وكان ذلك سببا كافيا جراء ارتباط ثورة 26 سبتمبر 1962م منذ الوهلة الأولى لانطلاقتها بالمد القومي الناصري قد ضاعف من التحديات التي اعترضت مسيرة تلك الثورة منذ البداية الأولى لانطلاق شرارتها.
لذلك كان من الطبيعي أن تقف مصر عبدالناصر لمؤازرة ودعم تلك الثورة وقد كان لذلك اثره البالغ في نجاح النظام الجمهوري رغم ما تخلل السنوات الأولى من عمر ثورة 26 سبتمبر المباركة من تحديات تمثلت في البداية أو في الأيام الأولى لقيام تلك الثورة بين الجمهوريين والملكيين وانتهى ذلك الصراع بمؤتمر خمر الذي أدى إلى الوفاق بين الجانبين.
بيد أن ما يمكن وصفه بنتائج سلبية ترتبت على الصراع السياسي الذي ترافق مع ثورة 26 سبتمبر منذ البداية الأولى وقد تمثل ذلك كما سبقت الاشارة إليه الصراع السياسي بين الجمهوريين والملكيين ومع دخول مصر لدعم ومؤازرة الثورة المجيدة كانت هناك اطراف اقليمية ودولية تعمل من جانبها للقضاء على ثورة 26 سبتمبر وقد أدى ذلك إلى اتساع نطاق صراع القوى الاقليمية والدولية على اليمن وكان من نتائج ذلك الصراع الاطاحة بالمشير عبدالله السلال في 5 نوفمبر 1967م ثم إعلان حركة جديدة اعتبرها بعض القائمين عليها تجديدا لمسار الثورة.
ولكنها بالتأكيد كانت ضمن آلية عمل لصراع السياسي الداخلي والخارجي خاصة وقد كانت هناك تساؤلات مشروعة حول سبب استشهاد القائد الفعلي لثورة 26 سبتمبر الملازم الشهيد علي عبدالمغني في 6 أكتوبر 1962م أي بعد قيام الثورة بعشرة أيام وكان لذلك اثره البالغ في إجهاض مشروع الثورة وتلا ذلك تأجيج الصراعات الداخلية وما تعرضت له بعد ذلك بفترة العاصمة صنعاء من حصار السبعين فضلا عن أحداث اغسطس ومعنى ذلك بقدر التحول الايجابي الذي فرضته ثورة 26 سبتمبر على صعيد الواقع اليمني فإن جملة من السلبيات قد تخللت مسيرتها واعترضت طريقها وكان من ابرز تلك التحديات كما قلنا الصراع الخارجي بشقيه الاقليمي والدولية وما من ادنى شك بأن اليمن لا تزال تعاني من ذلك الصراع حتى اللحظة الراهنة وما خلفه من نتائج تدميرية مست كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية وإن كنا لا نختلف أن ثورة 26 سبتمبر قد اوجدت مسارا تعليميا جديدا وأسست بنية تعليمية ثابتة ومستقرة الذي كان الشعب اليمني يتطلع لذلك ففي هذا الجانب تم انجاز اعداد هائلة من المدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية ترافق ذلك مع إنشاء الجامعات المختلفة إلا أن ذلك كان تطورا كميا في التعليم ولم يكن تطورا كيفيا لما من شأنه إيجاد مشروع تعليمي متكامل لتحقيق أعلى قدر من امكانية النهوض باليمن.
ومعنى ذلك أن الثورة نجحت نسبيا في الجانب التعليمي لكنها اخفقت في إنشاء المشروع التعليمي لإنجاز البناء الاقتصادي بدليل الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد وهي ناتجة عن الجهل ومرجعها ضعف العلم.
ومما لا شك فيه أيضا أن ثورة 26 سبتمبر قطعت شوطا لا يستهان به في مجال الخدمات الصحية والطبية وانجزت اعداداٍ هائلة من المستشفيات العامة والخاصة وأوجدت لتحقيق ذلك قدرا ممكنا من التعليم الطبي لكن ذلك التطور المتسارع لم يرتكز على رؤى ثابتة ولم يتأسس على قيم وجوانب علمية ومستقرة بدليل أن الفوضى في قطاع الطب تفوق الفوضى في قطاع السياسة وهذا لا يقلل من نجاح الثورة في بناء وحدات صحية شملت معظم عواصم المحافظات اليمنية بل وصل ذلك التحول إلى بعض الارياف.
وكذلك على صعيد الهدف الملح والدافع الاساسي لتبديد الظلام الدامس الذي خيم على اليمن كان هناك تطلع مشروع بأن تحتفل الجمهورية اليمنية في اليوبيل الذهبي على قيام ثورة 26 سبتمبر أن تحتفل بإضاءة آخر قرية في الريف اليمني وإن كانت بالتأكيد قد انجزت منجزات عديدة في اضاءة المدينة وكهرباء الريف واستطاعت في تحقيق ذلك قطع شوط لا يستهان به إلا أن هناك مشاكل ظلت تواجه مسيرة الثورة بمعنى أن الثورة لم تستكمل منجزها التاريخي على صعيد بناء محطات كهربائية لا تعاني من انقطاع التيار الكهربائي وما يترتب على ذلك من مشاكل مختلفة.
تحديات وصعاب
> ومعنى ذلك أن ثورة 26 سبتمبر بعد 50 عاما من قيامها تواجه تحديات مختلفة على صعيد البناء السياسي والاقتصادي وعلى صعيد التنمية بصفة عامة فقد كان أحد أهم أهداف تلك الثورة البارزة رفع مستوى الشعب اليمني سياسيا واقتصاديا سعيا من جانب تلك الثورة إلى الأخذ بزمام اليمن نحو مستقبل أفضل يتأسس على اقتصاد قوي يلبي حاجيات المواطنين وينهي الثالوث الرهيب المتمثل بالمرض والفقر والجهل.
فعلى صعيد المرض لا زالت الثورة تكابد تلك الآفة التي يعاني منها الكثير من المواطنين في ظل تدني وتدهور الخدمات الطبية وتراجع أداء معظم المستشفيات في بلادنا وعلى صعيد الفقر فإن معظم ما لم تكن أغلب التقارير المحلية والاقليمية والدولية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الشعب اليمني لا زال يعاني من آفة الفقر وأن النتائج المترتبة على ذلك زادت بنسب متفاوتة بين المواطنين وعلى نحو من الارتفاع الملحوظ حيث شمل حتى الطبقة الوسطى لم تكن الثورة السبتمبرية في دافعها الاساسي وتحركها الفعلي إلا نتيجة ضد ذلك الفقر وبالتالي فإنها استطاعت أن تحرز تقدما يذكر في مجال مكافحة الفقر.
ولكن ما نلاحظه خلال السنوات الماضية من الانتشار الملحوظ لظاهرة الفقر ويرجع ذلك بكل تأكيد إلى أن الثورة اخفقت في رفع مستوى الشعب كما يرجع ذلك ايضا إلى إخفاق الحكومات المتعاقبة لأن الدولة اليمنية لم تستكمل بنيتها التحتية والفوقية وبالتالي أدت التشوهات السائدة في الاقتصاد الوطني إلى اختلالات هيكلية لا تفرق بين قطاع الانتاج وعناصره أدى ذلك إلى ضعف ملحوظ بالزراعة ولأن الاختلالات الهيكلية التي مست الاقتصاد اليمني وتزايدت خلال السنتين الماضيتين كانت سببا رئيسيا لتفشي ظاهرة الفقر الذي من الصعوبة بمكان أن تحله المساعدات الخارجية لأن وعود المانحين جعلت اليمن يتخلى عن وظيفته كبلد زراعي وهو ما أدى إلى مضاعفات اخفاقات التنمية في جميع مستوياتها الاقتصادية على وجه التحديد.
لأن اليمن اصلا ليس بلدا صناعيا حتى يكون لديه اقتصاد مؤسسي على قاعدة صناعية ولكنه يظل بلدا زراعيا بالطبيعة وعندما تخلى عن ذلك وأراد أن يكون بلدا صناعيا تضاعف التخلف في البنى الهيكلية لذلك الاقتصاد ومعنى ذلك أن الثورة اليمنية حاولت رفع مستوى اقتصاد الشعب اليمني ولكن الصراعات السياسية حالت دون تحقيق ذلك خاصة وقد اتخذت تلك الصراعات ابعادا مختلفة من المماحكات والمكايدات التي لا تزال تحكم المشهد السياسي حتى اللحظة الراهنة فضلا عن أن تلاشي صوت الحق والحكمة بين اليمنيين ادى إلى صراعات مؤسفة كأحداث اغسطس كما قلنا في المحافظات الشمالية وكذلك احداث 13 يناير 1986م في المحافظات الجنوبية فضلا عن صراعات سابقة ولاحقة على الصعيد السياسي أثر ذلك عبر مراحل مختلفة على البناء الاقتصادي لأن من الصعوبة البالغة بناء اقتصاد وطني قادر ومقتدر على تنويع مصادر الدخل ومواجهة مشاكل الهيكلة والتكييف الناتجين عن التقلبات السلبية للاقتصاد الرأسمالي في ظل انعدام الاستقرار السياسي.
لذلك كانت دورات الصراعات السياسية التي شهدتها اليمن لأكثر من نصف قرن من الزمن سببا رئيسيا في تخلف وتردي الاقتصاد اليمني باعتباره يصنف ضمن الاقتصاديات المتخلفة رغم ما لذلك الاقتصاد من امكانيات طبيعية ولولا الصراعات السياسية كما قلنا لما كانت اليمن لتعاني في عهد الثورة المجيدة 26 سبتمبر و14 أكتوبر غير أنها انجزت في مسار نظام الحكم قدرا عاليا من الوعي السياسي بدليل أن اليمن فيها أكبر تعددية صحفية وحزبية على مستوى العالم ومعنى ذلك أن هناك حرية رأي برغم التحديات المختلفة استطاعت ثورة 26 سبتمبر 1962م ومعها وليدتها الشرعية لها ثورة 14 اكتوبر 1963م أن تكونان عند مستوى الصدق والموضوعية في الوفاء بما تم في الثاني والعشرين من مايو 1990م من استعادة الشعب اليمني لوحدته المباركة ففي ذلك اليوم التاريخي كانت ثورتا 26 سبتمبر و14 أكتوبر المجيدتان عند مستوى الوفاء لذلك الهدف المتمثل باستعادة وحدة الشعب اليمني كما كانت لتلك الثورتين بصمات واضحة في تأسيس تجربة سياسية أكان ذلك في الشمال أو الجنوب سابقا.
حيث تجلت معالم تلك التجربة من خلال نمو نظام الحكم السياسي وبذل مساعُ اعترضتها تحديات مختلفة لتطوير ذلك النظام وما تخللت ذلك من سلبيات وايجابيات فلا نستطيع أن نقول بالفشل الذريع وبالنجاح المطلق ولكن حصلت على صعيد نظام الحكم إنجازات تحققت على أرض الواقع في شتى نواحي الحياة وإن كانت في جانب نسبي بحاجة إلى مزيد من تكريس قيم العدل والحرية والمساواة لتكون اليمن عند مستوى الرسالة السماوية التي اختارتها نهجا لعقيدتها الإسلامية.
وكذلك على صعيد العلاقات الخارجية أسست الجمهورية اليمنية شبكة علاقات اقليمية ودولية مميزة أكان ذلك على صعيد مجالها الحيوي أو على الصعيد العربي والإسلامي وبالتالي فإن ذلك جاء بفضل ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر ولكن اللحظة التاريخية تستدعي في مثل حساسية هذه الظروف الراهنة ضرورة تقييم العملية الثورية في مجملها ولا يعيب نقدها لأن النقد ضرورة ملحة لتقييم مسارها خاصة بعد مرور خمسة عقود من عمر تلك الثورة الخالدة وتبقى الحاجة ماسة إلى التنوير الضروري لتحاشي السلبيات أكانت سياسية أو اقتصادية وتحكيم العقل والمنطق في إدارة الخلافات السياسية بين اليمنيين على قاعدة اليمن فوق الجميع.

قد يعجبك ايضا