لقد وصف الرحالة والكاتب اللبناني أمين الريحاني صنعاء في كتابه “ملوك العرب” عندما زارها قادماٍ من جدة في عهد الملك حسين بن الشريف وهو في طريقه إلى عدن ومنها إلى أمريكا في عام 1922م بأنها هي مليكة الزمان وسيدة الإنس والجان عندما وقف على كنوزها وطاف حول قصورها وسمع الشعراء وهم ينشدون عن دورها فقد كان قبل مجيئه إليها يتخيل كلما قرأ عن صنعاء وكان يعتبرها أسطورة من الأساطير.
ولكن عندما شاهد العقيق عرف أنها عاصمة عريقة .. عريقة الزمان.
فصنعاء فريدة عجيبة فيها الهواء العذب أعذب من الماء والماء أصفى من السماء والسماء أجمل من حلم الشعراء وفيها البرد وقد علت تسعة آلاف قدم عن سطح البحر ويستحيل لقربها من خط الاستواء دفئاٍ وهي قائمة في قاع سنحان تزينها من جهة الروضة البساتين والكروم ومن جهة أخرى حدة وسناع وفيها الأشجار والأنهار ومن جهة أخرى الحوطة وفيها السواقي والطواحين وتحيط بها الجبال دون أن تقصر أرجاؤها وأقربها إليها جبل عصر وهو يظلل المروج في الأصيل ونقم الذي تجري منه المياه إلى المدينة والتي تحمل الشمس من فوقه وميض الزجاج ومنها تلغراف المدايا الذي يوصل أوامر الإمام يحيى من فينة إلى أخرى وهذا عشار وفيه الرخام والمرمر وذاك آنس في الجنوب وسعوان دونه شرقاٍ وفيهما معادق الطلق وهناك رضراض وفيه معدن الفضة وهناك شبام شمالاٍ بغرب وفيه من الحجارة الكريمة والجزع والعقيق.
كما قال في وصف صنعاء أيضاٍ: أي صنعاء مثلك لنا التاريخ فكنت مليكة الزمان ومثلك لنا العلم فكنت يوماٍ ربة العرفان ومثلتك لنا الأساطير فكنت سيدة الجن والجان.
وهذه بيوتك العالية وقصورك الشاهقة فما كذب التاريخ وهذا جمالك الطبيعي وبهاؤك العربي فما كذب الشعر وفي خزائنك الكتب النفيسة والمخطوطات فما كذب العلم.
فقد تغلغلنا في سراديبك ووقفنا عند كنوزك وطفنا حول قصورك وسمعنا الشعراء ينشدون في دورك واليوم مطيتنا غير الخيال.
فقد كان قبل مجيئه إليها يتخيل كلما قرأ عن صنعاء وكان يعتبره أسطورة من الأساطير ولكن عندما شاهد الحقيقة عرف أنها عاصمة عريقة.. عريقة الزمان.
وهذه كنوزك وسحر قصورك وسحر الأسماء فيك فما كذبت الأساطير كنا نظنها أسماء ابتدعها الشعراء لعرائس الجن والخيال ولكنها الحقيقة في أعلى مكان.
أجل إن صنعاء في محاسنها لا تخيب للزائر أملاٍ وكلما دنوت منها وهو عكس الحقيقة في أكثر المدن ازداد رونقها وازداد إعجابك بها.
لقد وصلنا إلى صنعاء بعد اثني عشر يوماٍ في المشقات من عدن إلى صنعاء ظهراٍ فلاقانا على مسافة ميل خارج السور رجال الإمام وثلة من الجنود وسرنا في موكب الغناه وما مللناه لأن “الزامل” نشيد الزيود لما شاهدناه في تعز وإب ويريم ساروا بنا جميعاٍ وهم يهزجون فمروا ببوابة عدن الجميلة الهندسة والبناء وإلى جانبها خارج السور ثكنة كبيرة شيدها الترك ثم حول السور غرباٍ إلى بوابة أخرى أفضت بنا إلى ساحة فسيحة بين صنعاء والحي القريب منها الذي يدعى بير العزب.
هناك سمعنا وشاهدنا في مظاهر الاستقبال اليمانية مشهداٍ آخر كان له في لبنان مثيل ألا وهو المشوبش الذي يدعى في اليمن “الدوشن” فشرع يصيح مرحباٍ بنا صياحاٍ فيه نبرات وغنات جمعت بين رديء الخطابة والنشيد علمنا منها أننا نور شمس الكمال وقمر الفضل والجلال وغيرها من آيات المحال.
وعندما وصلنا إلى بير العزب أي الحي الذي يسكنه أغنياء صنعاء وفيه قصور الإمام ومركز الحكومة دخلنا البيت الذي أقمنا بعدئذ فيه بميدان الشرارة وكان الخيال في الانتقال إلى لبنان وإلى الشام أبهج وأتم البيت صغير ولكنه في الذوق وأسباب الراحة المتوافرة ردهة الاستقبال فيه تشرف على صحن في وسطه شاذروان وحوله القرنفل والريحان وفوقه تتدلى أغصان المشمش والرمان يغرد فيها القمري والحسون وتتلألأ خلالها الشمس فتكلل حبال الماء المتصاعد من البركة لجيناٍ رجراجاٍ.
أما سرورنا الأكبر في اليوم الأول ففي مائدة على طاولة تحت المشمشة عند الشاذروان بادرنا إليها وعيوننا لا تصدق أن الكرسي كرسي وأن في أيدينا الشوكة والسكين وأن ما نأكل قد طبخه طباخ متمدن وإن بالغ بالأبازير ثم سألنا ونحن في ذلك النعيم عن النعيم الآخر الحمام فقال السيد علي زبارة وهو وزير المالية ووكيل الضيافة عن الإمام:
الحمام يوم وصولكم لا يجوز ولكني عرفت في اليوم الثاني عندما زرت الحمام الذي أرسلنا مصحوبين بجندي إليه أن التأجيل له سبباٍ آخر فيه دليل على ذوق السيد علي زبارة ولطفه فقد بعث إلى صاحب الحمام يأمره بتنظيفه وإعداده لنا وحدنا!!.. ثم عرفت اليوم الثالث أن السبب الأول في ذلك هو التحذر من اجتماعنا بالناس ومحادثتهم وذلك عملاٍ بأمر الحضرة الإمامية الشريفة التي كانت يوم وصولنا متغيبة في الشمال لتحسم خلافاٍ بين الحواشد وعيال سريح استفحل أمره وقيل لنا في الطريق إن بعض رؤساء تلك القبائل يفاوضون السيد الإدريسي لينضموا إليه وينصروه على الإمام فلما أخبر الإمام بقدومنا أمر ألا نقابل أحداٍ من الناس قبل رجوعه.
ولكن في اليوم التالي زارنا أحد رجاله الكبار القاضي عبدالله العمري وهو يد الإمام اليمنى ورئيس ديوانه.
ثم سألنا زائرنا عن زميله القاضي عبدالله العرشي فأجبناه بما نعلم فقال له سنة في عدن ولم يفعل شيئاٍ في محادثاته مع الإنجليز بخصوص احتلاله الحديدة.
ثم استأذنا السيد علي زبارة في مشاهدة العاصمة صنعاء في فترة غياب الإمام الذي جئنا إليه من عدن كمبعوث للإنجليز إلى الإمام لعقد معاهدة مع الإدريسي والإنجليز والملك حسين لحل قضية الحديدة وإعادتها إلى الإمام في حال وافق على شروط المعاهدة التي جئت إليه بها من عدن.
فسمح لنا زبارة بزيارة صنعاء فقط من عند السور وأرسل معنا شرطيين وأحد الموظفين.
مشينا في طريق واسعة بين الحقول المزروعة والسور الكبير المبني من اللبن والطين ووقفنا بعد نصف ساعة عند بوابة الشمال ثم دخلنا المدينة بدون علم السيد زبارة ودورنا في أحياء السكن منها دون أسواق التجارة.
إن صنعاء مدينة عربية صافية روحاٍ وشكلاٍ أسواقها مثل أسواق جدة غير مرصوفة ولكنها أوسع وأنظف أما بيوتها العالية وبعضها ست طبقات فبناؤها أجمل هندسة وأكثر اتقاناٍ لأن الأسلوب العربي فيها لا يشوبه شيء أجنبي هندي أو أوروبي وهي مبنية بالحجارة البيضاء والسوداء وبعضها بالآجر والبعض باللبن وبين كل طابق والآخر زنار من الجص الأبيض المنقوش أشكالاٍ هندسية وفوق كل نافذة كوة فيها لوح من المرمر يكاد يكون كالزجاج رقيقاٍ شفافاٍ “القمرية”.
وهناك في الطابق الأخير لأكثر البيوت غرفة هي غالباٍ مطلقة من جهاتها الأربع تشرف على المدينة وتدعى “المنظرة” يستخدمها الناس للاستقبال والقيلولة فيفرشونها بالطنافس والمساند والوسائد.
أما الأحياء فتختلف رونقاٍ ونظافة وأحب أن يستأجر بيتاٍ في صنعاء القديمة ولكن اسكنوه في بير العزب فقد أغرم بجمال صنعاء الخلاب وطيبة سكانها وقد قال في وداع صنعاء أنها مدينة عجيبة كان لها من أسباب المجد والشهرة والعمران ما لا يتوفر لأكبر مدن العالم المتمدن اليوم لها تاريخ عامر مجيد ولها مدينة قامت بين شمس المجوس وكواكب الأوثان وتعددت فيها الأسرار والكهان وعزت عندها آمال الإنسان فكانت ملكة سبأ ثم كان حمير وقحطان ثم التوحيد وشوكة قريش وعدنان فهي على علوها لا تعرف الثلج وهي على دنوها من خط الاستواء لا تعرف من قيضه غير نزوات وهنات وفيها من الماء القراح وغزارته فلو عمرت إليها الطرق الصالحة للعربات من الغرب ومن الشمال واتصلت بها عدن والحديدة بسلك الحديد لتقاطر إليها الناس صيف شتاء من كل النواحي حولها ولغدت في أقل من عشرين سنة باريس البحر الأحمر أي صنعاء إلى أن قال: يا صنعاء ونستودعك الله قد أكلنا من ثمارك وشربنا من مائك ونمنا تحت سمائك وانتعشنا بعليل هوائك.
قد يعجبك ايضا