الأخوة في الإسلام.. القيمة التي تصنع المجتمعات

لقد كانت عملية صناعة مجتمع متماسك يعرف طريقه نحو الريادة الأخلاقية والمادية التي تؤهله لأن يقود العالم ويْخرجه من الظلمات إلى النور – عمليةٍ بغاية الصعوبة في ظل الظروف المعقدة التي كانت تعيشها المجتمعات العربية في شبه الجزيرة العربية إبان بعث النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- وتكليفه بتبليغ رسالته السماوية لا سيما أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- خرج مهاجرٍا من مكة إلى المدينة نائيٍا بالضعفاء من المسلمين من القهر والتنكيل راغبٍا في رضوان الله عليهم وتبليغ رسالتهº فكان من أهم أعماله – صلوات الله وتسليماته عليه – بعد بناء المسجد النبوي الشريف المؤاخاةْ بين المهاجرين والأنصار ويشير بعض العلماء إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد آخى بين الصحابة في مكة قبل الهجرة.
والأخوة – في معناها العام: هي درجة من درجات القرابة والدم تجعل للمرء على أخيه حقوقا وواجبات ولكن الأخوة في الإسلام جاءت بمفاهيمِ مغايرةُ وغير تقليدية فصارت الأخوة مفهومٍا عظيمٍا وعلاقاتُ واسعة متحررةٍ من رباط النسب والدم موثوقةٍ برباط أهمِ وأعظم وهو الرباط الإلهي غايتها رضاه – سبحانه وتعالى – وبلوغ الجنة فالأخوةْ والمحبة والارتباط لأجله – سبحانه – جعلت الغني في الإسلام أخٍا للفقير دون استكبار والأبيضِ أخٍا للأسود دون تمييز والحرِ أخٍا للمستعبد دون فضل ووثقت وثاق الأخوة بأعظم المواثيق وهو ميثاق المحبة في الله فقال -صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم).
ولقد أقر الله – سبحانه وتعالى – الأخوة بين المؤمنين في الإسلام فقال في محكم كتابه:
?إنِمِا الúمْؤúمنْونِ إخúوِةَ? [الحجرات: 10] والأخوة الخالصة لوجه الله الكريم توجب للإخوة المؤمنين الجنةِ في الحياة الآخرةº لأنهم قد صنعوها بأخلاقهم في الحياة الدنياº لقوله -صلى الله عليه وسلم- سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: .. منهم رجلان تحابِا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
درجات المحبة
والمحبة في الله درجةَ من درجات الأخوة الإسلامية التي توجب رضا الله وملائكته والأنبياء والشهداءº لقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ((حول العرش منابرْ من نور عليها قوم لباسْهم نور ووجوههم نور ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء)) قالوا: صفهم لنا يا رسول الله فقال: ((المتحابون في الله والمتجالسون في الله والمتزاورون في الله)).
ولقد كان في المدينة المنورة رجال ضربوا أجلِ وأعظم الأمثلة في توطيد الأحاسيس والمشاعر وجعلها ترتقي من صورتها الحسية والمعنوية إلى كافة صورها المادية التي وطدت العلاقات بشكل يمكن قياسه وآلفت بين القلوب وصنعت الامتزاجِ والانصهار التام بين الجميع: المهاجرين والأنصار بل والمسلمين الوافدين من شتى الربوع والأقطار والخضوع الكامل لأوامر الله ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- ونواهيهº لينطلق بهم نحو آفاق المجد التي لا تحدها إلا الجنة فالأخوة قيمة من قيم التمكين والنصر لرسالة الإسلام ونموذجَ لمجتمع أخلاقي متماسك متعاون مترابط برباط أقوى من رباط الدم يستوعب التعددية ويجمع الثقافات في عقد لا ينقطع ويروج لدين أسس لقواعد أخلاقية لم يكن العقل يتصورها في تلاحم جعل المجتمعِ الإسلامي مجتمعٍا متوهجٍا بكل قيمة وبكل فضيلة أخلاقية فدعا الناس ليدخلوا في دين الله أفوجٍاº من أجل أن ينالوا درجة الأخوة والمحبة في الله فلقد ألِف الله بين هذه القلوب ووحدهم نحو رضاه ووفقهم لما فيه النصر لدينه الحق فقال – تعالى -: ? وِأِلِفِ بِيúنِ قْلْوبهمú لِوú أِنúفِقúتِ مِا في الúأِرúض جِميعٍا مِا أِلِفúتِ بِيúنِ قْلْوبهمú وِلِكنِ اللِهِ أِلِفِ بِيúنِهْمú إنِهْ عِزيزَ حِكيمَ ? [الأنفال: 63].
الوقاية من أمراض النفوس
ولقد رسخت الأخوة في الله وفي الإسلام لمفاهيمِ اجتماعيةُ وإنسانية ما يزال ينادي بها وينادي لتقنينها وتطبيقها عمليٍا وميدانيٍا فكانت دولة الإسلام هي الراعيِ الحق للنموذج العملي والميداني الذي طبق هذه القيم وهذه المفاهيم بشكل ما زال يدعو للدهشة والانبهار بما قدمته هذه الرسالة الأخلاقية للإنسانية فكانت مقاومة ووقاية من الأمراض التي يعاني منها الفرد والجماعة عبر الأزمنة ومنها:
الوقاية من الأمراض الفردية التي تنعكس على المجتمع.
فالأخوة في الإسلام تضمن للمؤمنين – الذين يعملون بحقها – الوقايةِ من جميع الأمراض الداخلية التي قد تعتري النفوس: كالكره والبغض والحسد والغلظة والتلاعن والاستعلاء وغيرها من هذه الأمراض الفردية التي قد تنعكس على المجتمعات الإنسانية وتدعوها إلى الانحطاط والتراجعº وذلك لأن الإخوة المؤمنين من الطبيعي أن يأتمروا بأوامر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وينتهوا به.
وقاية من الكره والتباغض بالقلوب:
فقد حث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- الإخوة المؤمنين المتحابين في الله على سلامة الصدور والتحرر من هذه الأمراض ففيما روى أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانٍا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالُ)).
فأقل درجات الأخوة في الإسلام تبدأ بصفاء النية وسلامة القلب من المسلم تجاه أخيه المسلم وتنتهي بأعلى درجات العطاء والمنح: درجة الإيثار ?وِيْؤúثرْونِ عِلِى أِنúفْسهمú وِلِوú كِانِ بهمú خِصِاصِةَ? [الحشر: 9].
فالكره والتباغض بالقلوب قد يؤدي إلى القطيعة بالأفعال والأقوال أيضٍا والأخوة بفطرتها السليمة وبنظامها المشروع في الإسلام – تنهى عن الكره والتباغض حتى إذا عصى الأخ الله لا يجب على أخيه المؤمن أن يبغضه بغضٍا مطلقٍا فالبغض المطلق هو بغض الكافرينº لأنهم ليسوا أهلاٍ لكل خير يدعو للتقويم والإصلاح أما المؤمن وإن عصى وإن أصر على معصيته فيجب على أخيه المؤمن أن يحبه على ما معه من الإيمان وأن يكرهه على ما معه من الفسق والعصيان وأن يسعى للعمل على تقويمه وهدايتهº لقوله فيما روى أبو موسي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضٍا))º فحري بالإخوة أن يكونوا سببٍا لتقويم بعضهم بعضٍا وهداية بعضهم بعضٍا.
وقاية من الحسد والغل:
فالحسد بين الإخوة المتحابين في الله المتمسكين بشرائعه – لعبةَ شيطانية حذر منها الرسول الكريم فقال -صلى الله عليه وسلم- قولِه المأثور الكريم: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلْون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم))º رواه مسلم.
ويتضح من هذا الحديث الشريف أن هناك ارتباطٍا بين التباغض والتحاسد‏ فالتحاسد هو أن يحسد الإنسان شخصٍا آخر على ما أنعم الله عليه به‏‏ وأن يتمنى زوال نعمته‏ ولا يمكن أن يتمنى الأخ المؤمن زوالِ نعمة أخيه المؤمن أو زوال نعمة أي شخص يحبهº فالأخوة تضمن للمؤمن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن يكون في عونه دائمٍاº لأن الله سيكون له سندٍا وعونٍا فالأخوة الإسلامية توجب سلامةِ الصدر ونقاءه من الغل والحسد بالصور التي قد تنعكس على المجتمعات التي تنتشر فيها وتدعوها للتراجع.
قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل¿ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب¿ قال: ((التقي النقي لا إثم فيه ولا بغض ولا غل ولا حسد)).
وقاية من الخصام والتناحر:
فالأخوة في الإسلام تجعل الإخوة حريصين أن ترفع أعمالهم الصالحةº لأن المتخاصمين المتناحرين لا ترفع صلاتهم إلى الله ولا تقبل حسناتهم وهم متخاصمون والأخوة – التي غايتها وجه الله الكريم – توجب الصلح والوفاق والمحبة بين الإخوةº لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرٍا: رجل أمِ قومٍا وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان)).
والخصومة والتناحر تؤثر سلبٍا على تقدم المجتمعاتº فالشعوب المتقاتلة تكون مهزوزة ومهزومة تسير دائمٍا إلى الخلف وإلى الهاوية والأخوة من الوفاق والاتفاق الذي يؤدي إلى رقي المجتمعات ونهضتها وتقدمها.
وقاية من الغيبة:
فالإسلام حريص كل الحرص على حسن العلاقة بين أفراد الأمة وتوطيد الصلة القوية القائمة على المحبة واحترام الحقوق والاحتفاظ بالأمانات والأسرار وصون الأعراض والعون عند الشدائد وما إلى ذلك مما تفرضه العلاقات الإنسانية السامية ومن أجل ذلك أوجب الإسلام عدم التجسسº حتى لا تتكشف عوراتْ الناس ومن تتبِع عورات الناس تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد أو كما قال – صلى الله عليه وسلم.
ونهى الإسلام عن الغيبة فلا يحق لامرئ أن يغتاب أخاه في مجالس السمر أو أماكن العمل أو في أي مجتمع يوجد فيه.
والأخوة بعمقها الروحي والأخلاقي في الإسلام تضمن ذلكº لأنها من النواهي التي نهى عنها رب العزة في القرآن الكريمº لقوله – تعالى -: ? وِلِا تِجِسِسْوا وِلِا يِغúتِبú بِعúضْكْمú بِعúضٍا أِيْحبْ أِحِدْكْمú أِنú يِأúكْلِ لِحúمِ أِخيه مِيúتٍا فِكِرهúتْمْوهْ ? [الحجرات: 12].
فالغيبة من الأمراض الاجتماعية التي حذر الله من انعكاسات نتائجها من الأفراد إلى الجماعات ولكن الإخوة المتحابين حريصون على أن يتحدثوا عن إخوانهم بكل خير فعندما يكون المرء حريصٍا على الثناء على إخوته في غِيبتهم ستتوطد علاقات المحبة وسيكون الدافع أكبرِ من أجل التقدم والنموº لأن الأقوال الحسنة في الغِيبة بمثابة الحوافز المعنوية التي تؤكد معاني المحبة وغلق أبواب الفرقة والانقسام.
وقاية من السب والتلاعن والتناحر وفحش القول:
فالأخوة الخالصة لوجه الله متحررةَ من كل أسباب الخصومة فلا يوجد في المجتمعات المتآخية:
أخ يسب أخاهº لأنه أدعى للفسوقº فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)).[7]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من أكبر الكبائر أن يسب الرجلْ والديه)) قيل: يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه¿! قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه))[8]º فلقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التلاعن والسب والقذف وهي من الأمراض التي لا يعرفها الإخوة الأتقياء الأنقياء المتحابون في الله.

قد يعجبك ايضا