في غمرة الرفوف المتوقفة على الكتب سافرت إلى مجلدين للشعر كانا للشاعر عبدالله البردوني انتقلت فيهما إلى أرضه وعالمه الشعري والإبداعي وكلماته في الحب والحرب والحزن والثورة والحياة والموت والوطن والمنفى وهو يتنقل بين القصائد تحسست حينها نتوءات وجهه وذكرى إصابته بالجدري, استمعت لضحكته, لصوته تنقلت في تفاصيل الأبيض والأسود المبعثر على رأسه, مارست طقوس الضجيج في صلب قصائده الوطنية الى الحنين المتراكم على غبار الذاكرة, استقليت أول المجلدين اللذين كانا (هما غريبان وكانا هما البلد) وجدت الافتتاحية للأستاذ خالد الرويشان الذي استطاع أن يجمع أعمال البردوني في هذين المجلدين شعرت به وهو يداوي أعينْ البردوني لعلهما تبصران من جديد شعرت بالتوجع المكنون في وجه البردوني وبتوجسه ومعاناته منذ الطفولة, وفي خضم تنقلي بين كلمات الرويشان شعرت بيد تمسكْ بيدي لأجد البردوني يخبرني ماذا أقرأ أحسست أننا نعرف بعضاٍ, أننا أصدقاء طفولة, أننا نعيش معاٍ منذ زمن لم يكن مفاجئاٍ ذلك الحضور, أخبرتهْ أنني ما زلت أقرأ بعض قصائده من الأعمال الشعرية التي كانت بمثابة وفاء من الرويشان لهْ تبسم ولم أكن أعرف أن الموتى يبتسمون.
أخبرتهْ أنني سأشكر الرويشان بدلاٍ عنهْ, أن كتب لي الحياة .. سأقبلهْ في رأسه بدلاٍ عنه تمايلت ابتسامةْ وبزغت كشروق جبال شمسان بعدن وبشموخ جبل صبر وجمال جبل بعدان وصبر جبل نْقم, قال تعال معي لنعبر للضفة الأخرى إلى عالم تعرفهْ جيداٍ وما إن وصلنا شاهدت إعلاناٍ مكتوباٍ به مرحباٍ بكم في الأعمال الشعرية الكاملة, لم يمر وقت وأنا مع البردوني وهو يسرد لي مواقفه ويلحقها بضحكاته الملائكية وقصصه, حتى وصلنا مكاناٍ أسماهْ ( من أرض بلقيس ) يقول لي هذه أرضي حيثْ التقينا وكنتْ أنا الغريب وتائهَ في مدرسة الحياة , أنا والشعر محنة الفن فكان لي فلسفة الفن وطائر الربيع وفلسفة الجراح, مضينا معاٍ مع الحياة وكان ينسلخ أمامنا فجران وهو يخبرني عن ليلة الذكريات مع نجوى وكيف كان هائماٍ في الطريق, وهكذا قالت حين يشقى الناس لا تسل عني لستْ أهواك … ثم امسكِ بيدي ودعاني لزيارة ( مدينة الغد ) وما إن شرعنا للرحيل حتى تنهد وقال سنسير قبلها ( في طريق الفجر ) وبين ليل وفجر شعرت برحلة التيه من زفيره وشاعر الكأس والرشيد وصراع الأشباح ورحلة النجوم وزحف العروبة وعيد الجلوس, في حديث النهدين سمعتْ حوار جارين بعد مصرع طفل في يوم العلمú كنتْ أقول لهْ تنبأت عن وطني وبه الآن مأتم وأعراس يبتسمْ وبضحكة خفيفة يقول: أنا وأنت ثائران وأنتِ عازف الصمت فراح يقطفْ وردةٍ لجمال عبدالناصر في يوم المفاجأة ويضعها بيدي وفي الأفق تثاءبت ( مدينة الغد ) تلك المدينة بحضارتها بشموخها فرحنا نزورْ معاٍ سِباحْ الرماد وابن السبيل وصديقْ الرياح ورائدْ الفراغ وأْمْ يعرْب ومررنا على ذكريات شيخين وكاهن الحرف وشاهدنا (لصَ في منزل شاعر).
واصلنا المشي وراء الرياح بين أختين وقرأنا الفاتحة على الشهيدة تفقدنا سيرةَ للأيام قبل أن تستضيفنا امرأةْ الفقيد لنحتسي بعض القهوة التي كان يحبها البردوني وقبل مغادرة ( مدينة الغد ) تمتم لي عن نهاية حسناءِ ريفيِة ….
وفي طريق العودة عرجنا على مكانُ معنونة بيافطة مكتوب فيها أنسى أن أموت وما إن قرأتها ألتفت إليه أستاذ عبدالله أليس هذا المكان خاصَ ( لعيني أم بلقيس ) يقولْ لي نعم هي تلك هنا صنعاء والموت والميلاد وصنعاء والحلم والزِمان ومن منفى إلى منفى وفي يمينك عينةَ جديدة منú الْحزن في بيتها العريق وبجانبه مدينةَ بلا وجه ستجدْ أيضاٍ صنعانياٍ يبحثْ عن صنعاء ومواطنَ بلا وطِنú وقد كانوا رجالاٍ بعد الحنين ستجدْ اعترافَ بلا توبة وتقرير إلى عام71 حيثْ كْنِا وهذا تمثال أبو تمام وعروبة اليوم ومعها ذكريات الموصل وبلاد الرافدين ليسمعني بعدها ساعة نقاش مع طالبة العنوان لنغادر بعدها المكان وكلي شغف لأن نصادف أصحاب ( وجوه دخانية في مرايا الليل) أخبرتهْ بذلك وبعد إلحاح عليه وافق لكن أخبرني إن أردنا الوصول إليهم علينا أن نسلك طريق العودة عبر ( السِفر إلى الأيام الخْضر ) مضينا فيها وهو يسرد لي ذكرياتهْ عن سفره إلى الأيام الخضر, اقمنا طقوس الحرف على (لصَ تحت الأمطار) و(مسافرة بلا مْهمِة) ارتوينا معاٍ في الشاطئ الثاني من أحزان وإصرار وبين المدية والذِابحú كان مناضلَ في الفراش يغني أغنية منú خِشِبú وبينِ ضِياعيúن أخذنا الهدهدْ السِادس وهو يهمس للبردوني ليسألني عن الغزو من الداخل لأتلو عليه متوجعاٍ القصيدة كلها وما إن أكملتها حتى أشار لي لأن نسير بعض الخطوات, ففي مقربة منا كان ينتظرنا أصحاب ( وجوه دخانية في مرايا الليل ) فأرديúتْ بعض الوجوه منها كتلك التي كانت بين الرجل والطريق وصيِاد البروق وزامر القفر العامر كنتْ كالمحكوم عليه حينما أرديت وجه الأخضر المغمور قرأت حينها سندباد يمني في مقعد التحقيق وفي وجه الغزوة الثالثة والتاريخ السري للجدار العتيق وبعد سقوط المكياج ورأيت تحت السكاكين هاتفاٍ وكاتباٍ وفي ذروة اندهاشي بكل جمال الوجوه والنصوص, لم أكن اعلم أن البردوني يتحسس ملامحي لعلهْ يعرفْ بعض واقعنا الذي نعيشهْ ليقدم لي دعوة كانت أعظم دعوة أتلقاها في حياتي, وهو يقول لي سنذهب إلى ( زمان بلا نوعية ) وما إن وصلنا إلى وجهتنا حتى صادفتْ صنعاء في فندق أموي بمعية الجدران الهاربة وبها السلطان والثائر والشهيد ومكتبيون والبطل والشاهد وبين الجدِار وجدار هدايا تشرين لعابرُ غير مسبوقú وبين بدايتين كانت أروى في الشام مع أغنياتُ في انتظار المْغني ووجدتْ بطاقة موظف متقاعد في آخر الموت, اقتربت من البردوني وجعلتهْ يتحسس القصيدة التي بيدي فقال لي أن أسمها للقاتلة حبا …. استأذنته بأن أحتفظ بها لأرسلها لتلك الفتاة التي مازالت تقطنْ مدينة قِدِسú بكل وحشية ..
فأهداني إياها وهو يلحْ بأن نعود إلى منزله الذي بدا لي وكأنهْ قصر مبين من حب الناس في اليمن والبلاد العربية والعالمية, وكم خجلت من نفسي من يمنيتي ومن هويتي بماذا أنصفناه, تذكرت بعض الدول العربية التي تحتفل بذكراه كل عام تذكرت دولة فرنسا عندما صكت عملة نقدية حملت صورتهْ, لملمت نفسي وأنا أشاهد منزله الأشبه بالورق, دخلنا وقبل أن أتفحص المكان أشار لي إلى الباب المقابل لي من ناحية الشمال وقال هناك الكثير من النصوص فذهبت إليها وما إن فتحت الباب حتى تراءت لي أبواب عدة, كان الفضول يساورني وهو يقول لي أفتح الباب الأقرب ليمينك فوجدتهْ لــ ( ترجمة رملية .. لأعراس الغبار ) وجدت فيه الصديقات وشتائيِة وخاتمة ثورتين وعواصف وقش, وجدتْ في ليلة منú طراز هذا الزِمان مصارحة المأدبة الأخيرة وحواريِةْ الجْدران والسِجين وحوار فوق أرض الزلازل وبقربها تركت وردةَ من دم المتنبي وكان الهارب على صوته يراقب أولاد عرفجة الغبشي في إحدى العواصف والتي كان على مقربة من جدليِةْ القتل والموت وفي غمرة انغماسي بالنصوص أخذ البردوني يدي وسلمني رسالة إلى صديق في قبره….
أخبرهْ أن نفتح الباب الآخر والذي كانت تحتويه عدة رسومات غريبة لم أفهمها إلا عندما فتح الباب على مصراعيه لأرى ( كائنات الشوق الآخر ) وهي على المقاعد الفسفورية في اجتماع طارئ للحشرات لاقترب أكثر منها وهي تناقش باستفاضة حروب وادي عوف وأمسيات في فندق وفصل منú تاريخ الصْبح ومهرجان الحصى وحواريِةْ الرِصيف (ج) وليليات قيس اليماني, سمعتهم يناقشون سكرانْ وشرطي مْلúتِحُ والمقبوض عليه ثانياٍ ومصطفى, وفوق الطاولة كان يوجد نصوص عن آخرْ الصمت والآتية وزمانَ للصٍمت وغير ما في القلوب وهذا العدم أغلقنا باب كائنات الشوق الآخر ومازالت كلمات قصيدة يا صْبحْ في مسامعي ليفتح لي البردوني باباٍ آخر في بداية مصابيح غائرة كأنها بنص حياة فعرفت أنهْ ديوان ( رواغ المصابيح ) كان يسكنهْ زائر الأغوار وفلان .. ابن أبيه وزوجة البلد وقِتِلِةَ وثْوِار وحراس الخليج ونموذج رجِالي في قصة امرأة وذات الجرِتين وحزبية ومخبرون وقرأت أيضاٍ العصر الثاني في هذا العصر وأشواق وقْرِاء النجوم وذات ليلة وتحقيق إلى الموتى الأجنة وقبل أن نغادر رواغ المصابيح أسمعني البردوني بصوته قصيدة شْبِاك على كاهنة الريح لنتجه بعدها فوراٍ الى باب ديوان ( جوِاب العصور ) وقصيدة ثوِار والذين كانوا في مازلت أسمعها بصوت الشاعر عبدالقادر البناء عندما ألقاها في ذكرى رحيل البردوني قبل عام ليقدم لي البردوني بنفسه النصوص على شكل أجوبة معنونة حملت أسماء كــ منزغ الشياطين وليلة في صحبة الموت وربيعية الشتاء وعلى باب المهدي المنتظر وتميمية تبحث عن بني تميم ومراسيم الليلة الخامسة وفتوى إلى غير مالك وقرأت أجوبة كانت باسم جلالة الفئران والمحتربين ورفاق الليلة الأخرى وزفِة الحرائق وما إن انتهيت من جميع نصوص الديوان تلفت قليلاٍ والبردوني ما زال واقفاٍ على باب وهو شارد قطعت خلوته لأساله أين كان رده سريعاٍ أحذية السلاطين تذكرت أن هذا الديوان اختفى سألتهْ أين هو فهز رأسهْ وقال سيبزغ ذات يوم كشمس أيلول لنفتح بعدها الباب الأخير والذي مثلِ ( رجعة الحكيم بن زائد ) كان وراء الباب العديد من تلك القصائد العصامية منها خضِان المآتم ووردةْ المْسúهلú وليلة نعي محمد الحيمي وقافلة النقاء وثلاثة رؤوس على رأس رْمح, فيما عشرون انتحاريْون ينتظرون, عشرون مهدياٍ وأميرة تحت سيف العِشيرة تقفْ بجانب الحكيمْ البلدي وحلقاتَ من فصول الحاء متكئة على مرقسيِات النِفط اليماني لنغلق الباب ومازلت أتمتم بقصيدة اليوم قبل الأخير لأنظر الى البردوني وكانت هي المفاجأة والتي لم أنتبه لها منذ التقائنا, تخرج الكلمات مني لا إرادية أنكِ تْبصر يا بردوني إذن من كان أعمى لابد أن كل من في وطني أعمى وكنتِ أنتِ المبصر الوحيد لتشع من بين عيونه هالة كبيرة ليختفي المكان بيننا قبل اختفائه وأصحو, وأدرك أن تلك الهالة كانت عبارة عن تسلل أشعة الشمس خلسةٍ لذاكرتي …..
هامش / مابين الأقواس أسماء دواوين الشاعر عبدالله البردوني وما يليه من كلمات أغلبها أسماء القصائد للديوان الذي بين القوسين.