كوكبان .. بنت السحاب وعاشقة النجوم

صباحَ مفعمَ بالدهشة والولِه الممتزج بالفرحة والحبور هو ذاك الصباح الذي عانقنا فيه مدينةِ كوكبان التاريخية بعد عودتنا من مناسبةُ عظيمةُ على قلوبنا حين استقبلنا أمير الشعراء الشاعر اليمني العذب عبد العزيز الزراعي الذي عاد متوجاٍ بإمارة الشعر العربي ليثبتِ للعالم بأسره أن اليمن كانت وما زالت موطن الشعر مثلما هي موطن العرب الأول.
كنا ثلاثة أنا والصديقان اللدودان عبد الله حمود الفقيه وعبد الله كمال محيي الدين وكانت الرحلة إلى كوكبان مسبوقةٍ بلهفةُ تطير بقلوبنا قبل أجسادنا شوقاٍ لمشاهدة موقعُ من أجمل ما أبدعِهْ الإنسان اليمني المثابر على مِر التاريخ.
كم كانت سعادتنا وأجفاننا تْقبل ذلك المعúلِم التاريخي العريق من مسافةُ ليست بالهينة, حيثْ تراءت لنا كوكبان نجمةٍ معلقةٍ تحت أجفان الغيم ونحن لا نزال نحثْ الخطى في شوقُ ولهفةُ لهذه المدينة العريقة.
من مدينة شبام القابعة في خاصرة كوكبان كانت بداية رحلة الصعود باتجاه الغيم, أقصد باتجاه كوكبان, وقبل الوصول إلى القمة دْهشنا لتلك المناظر الطبيعية الخلابة التي شاهدناها تمتدْ في الأْفق بشكلُ انسيابي بديع يْرغمْ المرءِ على التسبيح والتهليل لرب الكون الذي أتقنِ خلúق هذا الفضاء الوسيع المترامي مدِ البصر, ولا أقصد الفضاء بمعناهْ العمومي بقدر ما أقصد الفضاء الذي يتراءى للمْشاهد من أعلى نقيل كوكبان.
قبل الولوج إلى كوكبان تقابلك المدينة ببوابتها العتيقة التي تفوق في جمالها معظم المدن القديمة دقةٍ وهندسةٍ وانسيابا.. وفي هذه البوابة التي لا تزال شامخةٍ رغم تطاول العهد بها يعجبك في تصميمها الهندسي البديع بقاء البناء بحالةُ جيدة حتى يومنا هذا وخاصةٍ الأخشاب التي تحمل العقود الحجرية. وهو ما يؤكد علماء البيئة والهندسة المعمارية على أن اليمنيين القْدامى كان لهم معرفة كْبرى بأساليب الهندسة المعمارية بدليل أنهم بنوا مبانيِ قِلِ أنú تجدِ شبيهاٍ لها في الكثير من الأقطار العربية والإسلامية, وهذا كان لِهْ كبير الأثر في بقائها شامخةٍ منتصبةٍ تقاوم عوامل الدهر ومتغيراته حتى اليوم.
أرجاء المدينة لا تزالْ تنضحْ بعبق التاريخ وروائحه التي تلهب الأحاسيس للعودة لماضي الآباء والأجداد الذين كان لهم مع التاريخ صولات وجولات أنتجت هذه المعالم المعمارية الغاية في الروعة والدهشة.. وفي كل جنباتها يرى المرءْ بصمات التاريخ المسطرة بوضوح لا تزال شاهدة ٍ على حقبةُ زاهية من حقب التاريخ اليمني المجيد. وكمعظم المدن اليمنية القديمة يلف المدينة من احد جهاتها سور شامخ فيما تشكل العوائق الطبيعية بقية سور المدينة التي لا يمكن دخولها إلا من بابها الوحيد المسمى باب الحديد المحتمي بقلعة القشلة البديعة. وتمثل مدينة كوكبان بمبانيها العتيقة التي حافظت على طابعها المعماري متحفاٍ مفتوحاٍ يجسد عظمة التاريخ القديم للمدينة التي مازالت تحتضن في طياتها جزءاٍ هاماٍ من تاريخ اليمن من خلال الكثير من المباني الأثرية المتمثلة في المساجد القديمة كمسجد المنصور الذي بناه الأمام عبد الله بن حمزة قبل حوالي عشرة قرون تقريبا.
كما يعد حصن كوكبان من أشهر المعالم التاريخية بالمدينة وهو حصن شامخ يتربع على سفح جبل المدينة عاليا كحارس للمدينة وقد ذكره العديد من الرحالة والمؤرخين العرب البارزين كأبي الحسن الهمداني وياقوت الحموي الذي قال بأن الحصن سمي كوكبان “لأن قصره كان مبنيا بالفضة والحجارة وداخلها الياقوت والجوهروكان ذلك الدر والجوهر في الحصن يلمع بالليل كما يلمع الكوكب فسمي بذلك”. وقد اكتسب الحصن مكانة خاصة في نفوس أهل المدينة لأنه كان أحد الحصون التي قاوم اليمنيون من خلالها قوات الدولة العثمانية التي حكمت اليمن. وقد ساهم البناء المعماري المحكم للحصن في تحويلها إلى قلعة حصينة اكتسبت سمعة واسعة في هذا الجانب حيث يتوسط الحصن باب خشبي عملاق مغطى بصفائح معدنية صلبة كما يعتلي الحصن عدد من الأبراج الحربية ومخابئ قذف السهام كما تم حفر نفق من داخل الحصن ينتهي في منتصف المدينة. وتعكس قلاع المدينة عموما الأهمية الحربية للمدينة حيث يقال أن تلك الأهمية تعود لتاريخ الدولة الحميرية التي اتخذت المدينة حصنا ومخزنا لحفظ الحبوب كما اتخذها الأيوبيون حصنا لهم وكذلك فعلت الدولة العامرية قبل أن تصبح قاعدة عسكرية للقوات العثمانية بعد ستة أشهر من حصار أهلها.
على مدار التاريخ اشتهرت كوكبان بكثرة العلماء الذين أنجبتهم وعرفوا بغزارة علمهم وتسامحهم وانفتاحهم أمثال عبد القادر بن أحمد أستاذ شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني, وهو الأمر الذي وفرِ مناخاٍ جعل المدينة مركزاٍ مهماٍ للشعر والفن والأدب حيث ينسب الكثير من الأدباء والفنانين للمدينة التي تركت أثرا بارزا في تاريخ الأدب والفنون في اليمن,فإليها ينسب الفنان ذائع الصيت محمد حمود الحارثي والفنان عبد الرحمن الأخفش وشاعر الغناء الحميني الشهير محمد بن عبد الله شرف الدين صاحب ديوان { مبيتات وموشحات }.. وقد مثلت المدينة ذاكرة مفعمة بالحب حيث يقول فيها أحدْ شعرائها متغزلا:
جبــلَ لـم تجدú بسـكنـاهْ بؤســا * * فـلهـذا لـم تلـقِ فيـه عبـوســا
قلـتْ لمـا بــدا بشـكلُ جميـل * * كوكبانَ على الصبايا عروسا
وقد كتب عن مكانة المدينة الإبداعية عدد كبير ممن زارها وتعرف عليها عن كثب حيث تقول الأديبة الأردنية سميحة خريس: وكبان وما أدراك ما كوكبان حيث المجالس كلها فن وفرح يدور العود على الجالسين تباعا ليوقع كل جالس لحنا على الوتر ويشدو من كان صاحب صوت شجي ولم أجد في الدنيا احتراما ومكانة للعود كما في كوكبان وإذا كنا عرفنا الوقف يسخر للمشاريع الخيرية والإنسانية وربما التعليمية فإن في هذه القرية وقف يدعى وقف العود حيث يصرف ريعه على تعليم الصبيان أولادا وبنات فن العود كما يصرف على رواتب المعلمين وتجديد الأوتار وصيانة ذلك الإطار الخشبي الذي يتصل بالوجد.
بعد طوافنا في المدينة والاستمتاع بما حوتهْ من كنوز التاريخ البديع ومشاهدة المساجد التي تشع ألِقاٍ وروحانية ورغم الجوع والسهر الذي أعيانا إلا أن كل شيءُ في كوكبان كان جميلاٍ وممتعاٍ خاصةٍ أسواقها القديمة التي لا تزال تحتفظ بعددُ من الحوانيت العتيقة المبنية على الطراز القديم والتي هي في غالبها حوانيت صغيرة وضيقة تحوي على حاجيات أهل المدينة من المتطلبات الرئيسية التي يْكثرْ السْكانْ شراءِها.
لم يْعكر صفوِ رحلتنا سوى استراحة غيل علي التاريخية التي كانت تهفو قلوبنا إليها بشدة,لكنا وصلناها الواحدة ظهراٍ فوجدناها موصدة الأبواب لا تسمع في أرجائها حتى همسا.
ورغم أهمية موقعها إلا أنها لم تجد حتى الآن من القائمين عليها ومن الجهات المعنية ما تستحقه من عناية وترويج يكفل لها البقاء في صدارة المواقع السياحية الأكثر زيارةٍ على مستوى الوطن.
عْدنا من كوكبان ولا تزالْ نكهتْها وعبقْها يفوحْ من حناينا ولا تزال صورْ مبانيها ومساجدها وأزقتها وحوانيتْها مرتسمةٍ في خلجاتنا, لكن الأكثر ارتساماٍ كان هو ذلك المشúهدْ البديع الذي رأيناهْ من حافة المدينة أعلى استراحة غيل علي, حين بدا لنا الأفقْ ندياٍ طرياٍ تكادْ أبصارْنا تعانقْهْ عناقِ المتيم الولهان.

قد يعجبك ايضا