غريب الأربعين

إليك: أبي

صراخ يصم القلوب, كم الساعة ..¿! منتصف الصباح أرهف جزعي أتأكد.. تلاشى.. كنت أتخيل.. ربما أعيدني إلى جزر الأحلام النائية .. لم أعد أرتادها حتى في منامي لا.. فعلاٍ أصداء ألم ممتد الألم.. أفل لغمضة وعاد أعتى وأعنف .. صرخة أعلى حدة من تلك الأولى ألطف يا لطيف.. أي مصاب سأستضيف..!¿ هل تدري الأقدار أني لم يعد لدي متسع لجديد حالك..¿!! أو ارحبي يا جنازة فوق الأموات.. أهو موعد آخر لي اليوم أردد فيه هذا المثل الشعبي..مجدداٍ..!!¿¿
يا ساتر.. الأنين يعلو متخبطاٍ .. من أواخر شقتنا المتواضعة.. مهجع البنات كما يحلو لي تسميته .. سبع ما شاء الله كل واحدة منهن بسبعة وسبعين رجلاٍ محنتي هذه عرفتني بي أكثر.. صدق من دعا الأنثى بـ”تفاحة القلب” .. لم يهون علي مآسيِ سواهن.. خاصة تلك التي كالبها علي أكبر عيالي الثلاثة..!¿
سلام آها أصغرهن محاطة ببقيتهن منطوية على نفسها .. يعتصر الألم جسدها كله.. أدنو بخطى متوجسات الرهبة.
مالك..!¿
ولا شي بابا.. ولا شي..
ولا شي..!¿ كيف ولا شي وانتي تصيحين..¿¿!
بابا.. والله ولا شي..
طيب يا بنتي..
……
أغص بعبارتي.. ألتفت صوب أمها.. ألم تقل العرب :”وعند جهينة الخبر اليقين”.
ما لها..!¿ البنت..!¿
شوية مغص بسيط..
هكذا..!!
لا تحمل هم.. بعد قليل تطيب وتتعافى..
إن شاء الله.
لا أملك إلا تراجعي إلى سريري أدري أنهن يدرين أنني أدري بأنهن يكذبن علي.. مؤكد لا تريد لا هي ولا أمها تحميلي مزيداٍ من عبقري كارثي مثير.. يرمي بي من حالق .. يعيدني إلى ذات التسونامي الذي ابتلعني .. لكن لم يغرقني مذ قررت الانعتاق من دفء العوالم الغريبة.. والعودة إلى الأرض الأزلية..! تعبت من الغربة.. وأتعبني أشد محيطي هناك.. مهما امتلكت ومهما علت أرصدتك  ومهما تطاولت وتعرضت ثرواتك .. تبقى أنت هو أنت.. في عيونك أنت قبل عيونهم أنت مجرد غريب غريب.. خياراتك واضحة محددة: أن تنسى أصلك .. تتنكر لجذورك.. وتظل أسير لعنة أبدية .. عرفتها الأجيال بشتيمة واحدة هي مهاجر أو تحزم دنياك كلها.. عائداٍ لمسقط روحك الأول.. بمال جنيته وتراكم.. مذ قررت احتراف المال والأعمال.. وأنت بعد عشرك الأولى بعام لا غير.. ثلاثة أو أربعة أعوام بعدها وتزوجت.. وخلال عام ونيف تحت ظلال زيزفون السعادة.. أصبحت أبا .. هذا أنا فعلاٍ.. لا أصدقني أنا أحيانا.. أني فعلا هو أنا.. هذا الذي رفرف وحط هنا. وأصبح أنا..!!¿
الصراخ مجدداٍ.. هذه المرة صداه أخفت من ذي قبل الأبوة سجن إضافي أعايشه منذ أشهر شؤم..!!
أبي.. مثالي الأسمى.. استلهام مسراه لا مسايرته .. أوصلني إلى هنا.. وحيد .. غريب.. أنتظر الآتي.. فرج موعود بتباشيره عما قريب بإذن الله.. واسترجع الماضي الطري غباره في الذاكرة.. أكاد لا أصدق ما حدث فيه.. مرت بي خلاله أحداث وحوادث لم اصطدم بها أو ببعض منها طوال سنواتي الأربعين كلها هناك.. فيما وراء وطني..!
الآن الآن.. عرفتْ تماما مغزى ذلك المأثور الغابر .. لا بل اقتنعت به “من لم يعلمه الزمن تعلمهْ اليمن” وأنا لم أتعلم منها وفيها هذه البلدة الطيبة.. لكني تخرجت فيها بدرجة مصعوق تمام التمام .. مع مرتبة مصدوم حتى آخر شريان”..!!
قيم ومبادئ.. عشتها وعاشتني كاسمي.. بها عاملتْ من حولي.. عليها نجحت في تشييد سمعة وثروة.. كانت ذخري السري قبل حتى تكويمي تلال الأرصدة في بنوك شتى لكني هنا لا أصدقني.. كم كانت ساذجة عملة غير متداولة ..المنظار مقلوب والزوايا حادة.. انعكاس المفاهيم ليس خاطئاِ فقط.. لكن مشوه إلى حد أن الحقائق تبعث على الانذهال اللامحدود.. وقد تزيت بألوان مغايرة للمألوف مخالفة للسائد بصور جد شنيعة تماماٍ فطيبتك تستحيل إلى حمق.. أمانتك أمانة لكن أمانتهم “هم” خيانة.. ثقتك بمقربيك لا تحميك من غدر الأغيار.. لكنها خنجرك أنت في أكف محبيك ..”من ودعك لا تخونه حتى ولو كنت خاين” مأثور عتيق يصدق إيقاعه على المفاخرات الشفاهية.. لكنك تستنكره مطبقا على الواقع العملي في لؤم منقطع النذالة:” من ودعك خنه وخليك خاين”..!!¿
ها أنا.. ياه.. مجدداٍ ترتج الجدران برنين أوجاع مجهولة لا أدري ما علي فعله..!!¿ إن عدت واستقصيتْ المسألة مع الأرجوانة الصغيرة عما يكويها.. ستتكفل أمها بطمأنتي.. كما فعلت معي سابقاٍ اللهم لا نسألك رد القضاء علي أن أبتعد.. أنا مخير بين مغادرة الشقة.. وهو ما أعجز عن تنفيذه أو مراوغة الدبابيس المحماة التي يغرسها الصراخ طي روح روحي هذا حلي .. المجلس سأتوارى عمقه بإيصاد بابين علي فعلاٍ خيار في محله لا بأس حتى وإن لم تخمد التأوهات المنداحة ملء أرجاء المتوقع واللامتوقع..فإن تدانيها الجفون أهون وأضأل في التذكير بويلات الشقاء الناقم الذي غرقت في مستنقعه الوبيل منذ سنوات.. قصرها يكاد يوازي عندي دهوراٍ..! “بل الإنسان على نفسه بصيرة” حق .. القانون لا يحمي المغفلين واقع.. مطرقة وسندان.. من صنعي أنا فهل ألوم ثقل المطرقة أو صلابة السندان..¿! ألومني أنا.. كأني لم انتفع قبلا بحادث ولا بتجربة .. طيلة سنيني الماضيات.. حتى ضربت لي المصادفات العمياء موعداٍ مع صفعة العمر.. تلقيتها بين مصدق وغير مصدق..دْهشت لتوقيتها .. ذعرتْ من توالي هيجانها.. احترتْ في خضمها العاتي.. ومؤكد بحول الله سأتنفس الصعداء بعد أيام قلائل.. لما تنجلي أدخنة الغمة.. وبعد سنين سنين.. سأستغرب لي وأنا استرجع الغمامات السود.. كيف أنه قاسى مجريات خلت.. أصبحتْ استسيغ مذاقها.. مرارة استحالت لعذوبة ..كيف ..¿! لا تدري..!!¿ أمي.. حفظها رب الكون.. بشرتني بالأمس.. أنهت جميع المتعلق والعالق بأموالي هناك.. وسترسلها إلي على دفعات حسبما خططت لذلك .. درجتها الوظيفية يسرت لها لقاء “الملك” بنفسه.. ناقشها للحظات حتى أقنعته.. غادرته شاكرة له صنيعه .. بعد أن قبل بها قولاٍ وسجلاٍ وطنياٍ مشرفاٍ.. حفل كله بخدمة بلدها حتى استحقت بجدارة منقطعة الخبرة درجة وزير.. أطال الله في عمرها.. لا هي ولا بقية أهلي أو عائلتي أو معارفنا يدري بما حاق بي من ملمات جسام.. لو ذرت على أطواد راسيات لهدتها تماماٍ.. لكني أنا.. عنفوان لم يدنْ منه انكسار.. وكبرياء لم يمسسهْ ذل أو خنوع..! ذات يأس فتاك الأنياب… كلتْ وابلاٍ من اللعنات لكل ما جرى لي انكرت مقامي السعيد.. شككتْ بمجده الغابر جهاراٍ وتمتمة تذمرت مني.. شكوتْ بلواي شتمت واقعي فجأة كأني استحضرت روحاٍ ملائكية ذات الحمامة.. فيروزية التبسم رفرفت في حنان فائق.. تأملتها للحظة .. حتى شعرتها تحط برفق طي جوانحي أرسلت تقاسيما صافيات.. تهاززت لها أوتار قلبي ردتني إلي.. خلسة مني.. وجدتني أستعيد سكينة روحي المفقودة منذ قرون.. قطرت علي كل ترنيمة في قطفات ملونة من سوسن قديم لكنه أثير حميم..
الطيبة ليست غباء.. لكنها نعمة فضلى يفتقدها الأغبياء..!
مْرة أحزاننا لكنها يا عذاب الصبر.. أحزان الرجال
غفوت في أمان.. يحيط بي صحبي .. عندما استيقظت فوجئت بالذئاب حولي.. فكرت هل أكل الذئاب رفاقي..¿! أم أن رفاقي تحولوا إلى ذئاب..!!¿
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاٍ   يرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر
ما تموت العرب إلا متوافية..!
يارب .. إن لم تعطني ما أريد.. فاكتب لي الخير في ما تريد.
بعض العرب ليسوا من الناس مليون
خطه على يمناك إذا احتجت حاجة
وبعض العرب ودك تحطه بكرتون
وتكتب على الكرتون: وسطه دجاجة.
إذن….
ماذا .. من.. لماذا..¿
كيف.. متى.. إلى أين¿!

قد يعجبك ايضا