في طبعتها الثانية رواية نصف إرادة 2015 .. للروائي هشام المعلم الصادرة من القاهرة عن دار أروقة.. الرواية تقع في224 صفحة من القطع المتوسط. خط الكاتب على صفحة هذه العبارة “لم أتوان أبداٍ عن محاولة التعرف على ذاتي وهانذا ككل مرة أقع صريع الفشل تؤبجدني حيرتي”
رواية المعلم تعالج قضية إنسانية لا تخص المجتمع اليمني.. وإن دارت أحداثها فيه.. قضية تعصف بالمجتمعات الإنسانية قاطبة.. والمتمثلة في الإتجار بالبشر.. سواء عبر شبكات الدعارة.. أو الاتجار بالأعضاء البشرية.. أو زواج المتعة.. أو استعباد الأفراد نتيجة لفقرهم واستغلالهم في شبكات تسول وسرقة وتهريب.
ودوما ما نجد أن الضحية هو الفقير.. وأن الجلاد دوماٍ هو الغني. سواء على مستوى الفرد أو الشعوب.. واليمن مجتمع تكالبت عليه عوامل سلبية كثيرة منها الفساد والجهل والفقر. لينتج ذلك الثلاثي قبح استغلال الإنسان لأخيه الإنسان دون رحمة.. وهذا ما نجده في رواية المعلم.. رواية تشد القارئ من أول صفحاتها.. في منادمة بين ركاب الحافلة المنطلقة من صنعاء إلى تعز وفي العادة تستغرق تلك الرحلة بين الست والخمس ساعات.
الرواية باحت عن مكنوناتها من خلال دردشة بين شخصين .. أحدهم “علي” الراوي تولى تبديد الطريق.. بالعودة بذاكرته إلى أحداث عاشها.. ليحكي لرفيق الرحلة “الكاتب” حكاياته مع زميلته في العمل “مريم” ومع أحد جيرانه في الحارة التي عاش بها في تعز “أبو سعيد” والصبي “محمود” الضحية الذي أضطر والده إلى أن يسلمه لوسيط بغرض إدخاله للعمل في السعودية. مستلما مقابل ذلك مبالغ يواجه به مرض زوجته. ومن هنا تبدأ الأحداث المؤلمة للرواية. وهنا سر التشويق في هذا العمل.
سار الكاتب بالقارئ في خط زمني تصاعدي للأحداث.. وهذا الأسلوب هو المتبع في الكثير الروايات .. ما ساعد القارئ على تتبع الأحداث بسلاسة ودون عناء. ولم يقتصر أسلوب الكاتب على الخط التصاعدي.. بل أنه تجاوز ذلك إلى أسلوب العودة على بدء في سرد بعض الأحداث. وإن كانت الرواية برمتها عودة على بدء.. حين عاد السارد إلى مخزون ذاكرته.
ولتعدد جوانب الرواية موضوعيا وفنيا من الصعب الإلمام في مقاربتي هذه بكل ذلك .. مفضلاٍ تناول جانب مهم وهو التطرق لبعض شخصياتها.. مستشعرا من خلال قراءتي لهذه الرواية ميلاد روائي متمكن يعي أركان الرواية الحديثة. أشوق لأعمال قادمة.
ومن تلك الشخصيات التي سأتعرض لأدوارها بإيجاز شديد: مريم.. أبو سعيد.. علي.. محمود.. مراد.. عرفان ومصطفى.. ليلى.. الشيخ أحمد.
من خلال تلك الشخصيات وغيرها تتضافر الأحداث.. وتتنامى الشخصيات.. ناسجاٍ لنا الكاتب لوحاته الحكائية المشوقة في حبكات متتالية بما يخدم القضية المركزية التي تعالجها الرواية.
مريم: زميلة علي في العمل والذي ارتبطا بقصة حب قادت للاتفاق على الزواج.. لكنها مريم تفاجئ علي بعد سنوات بخطبتها لشخص لا يعرفه “مراد” ليعرف منها بأنه أحد عملاء الشركة التي يعملان بها.. ولم يكن مراد إلا صاحب مكتب تجاري. ومريم لم تفضله على علي إلا لأنه يمتلك من المال والوجاهة ما يوفر لها حياة هنيئة.. وتلك قضية اجتماعية ناقشتها الرواية كما تتعرض لعدة قضايا اجتماعية أخرى. وجلها ذات صلة بالمال والحاجة.
أبو سعيد: والد الطفل محمود الضحية.. أبو سعيد يجد نفسه عاجزا أمام مرض زوجته.. وهو الذي لا يملك متطلبات علاجها من المال.. ما يضطر قبول عرض أحد السماسرة عليه بتسليم ابنه محمود أبن العاشرة إلى وسيط مقابل مبلغ مالي بدوره يصله إلى السعودية وهناك تتسلمه شبكة تستغل الأطفال في الكثير من الأعمال غير القانونية .
علي: وهو الراوي.. والشخصية المحورية للرواية.. من يسرد أثناء رحلتهم من صنعاء إلى تعز ذكريات عاشها .. منها حبه لمريم .. ومعاناة الحياة بين المدينة والقرية .. وخذلانه الدائم من الحياة.. ووقوفه إلى جوار أبو سعيد بعد أن أتضح له جرم تهريب أبنه محمود ومقدار المعاناة التي يعانيها وتعانيها أمه المريضة لفقدان أبنها.. وسفر علي برفقة أبو سعيد إلى السعودية للبحث عن محمود.. وحكايات آلاف الأطفال المهربين والمستغلين.. واصفا تلك الطبيعة التي عبروا بالحافلة عبر أراضيها ابتداء من تعز وصولا إلى مكة .. وحكايات عرفان الصبي الذي دخل بصورة غير قانونية إلى السعودية وكذلك صبي آخر اسمه مصطفى. مستعرضا معاناتهم وغيرهم في البحث عن عمل تحت ملاحقة العسكر.. وضغط الحاجة.. ثم بحثهم عن محمود حتى وصولهم إلى العائلة التي تبنته.. وحكاية غرامه بليلى التي أشترت تبني محمود بأموالها. وإن كانت قصة غرام علي وليلى منقوصة .. حيث تركها الكاتب دون تتمة رغم اشتعال تلك العلاقة بين ليلى وعلي بصورة سريعة .
إذا علي هو الراوي وإن تخللت أصوات أخرى.. وهو الشخصية المحورية التي تدور حوله الشخصيات الأخرى .. وبذلك قدم لنا الكاتب أحداث هذا العمل المتميز في حبكات فنية متداخلة غاية في الإتقان.
محمود: الصبي .. أو الضحية والذي أستطاع الكاتب من خلال تلك الشخصية أن يقدم لنا الطفل النشيط والذكي والعطوف.. وقد تجلى ذلك من خلال تلك العلاقة التي كانت تربطه بجميع أفراد الحي الذي يقع منزل أبو سعيد فيه.. وخاصة بالعجوز” بيبة ” التي كان يتجنبها الجميع عدي محمود الذي دوما ما يقوم بما تطلب منه.. ومحمود فوق ذلك زرع لنفسه مكانا في أوساط الأسرة السعودية التي تبنته وبالأخص في قلب الرملة الصغيرة ليلى. ووالدها الشيخ أجمد الذي تقدمه الرواية مثالا للرجل العربي الشهم والحكيم.
مراد: الشخصية الفاسدة التي قدمها الكاتب كشخصية انتهازية.. واستغلالية .. وكأنه أراد تقديم أحد أوجه الفساد في اليمن.. أو رمز مخادع في المجتمع الذي لا يهمه إلا مصلحته ولو على حساب أعراض الآخرين.. فهو من أغرى حبيبة علي مريم على ترك حبيبها والزواج منه. وهو صاحب الصفقات المشبوهة ومنها إدارة معاملات تهريب الأطفال من اليمن للسعودية مقابل مبالغ ضئيلة تعتبر لدى المحتاجين مبالغ مغرية. وهو ممن تضاعفت أمواله في فترة بسيطة.
وهناك ملاحظات زادت من روعة هذه الرواية:
خيال الكاتب الذي استطاع أن يقدم لنا عملا مشوقا من صفحاته الأولى وحتى آخر صفحة.. وذلك بفضل تلك الأحداث الخيالية والشخصيات القريبة من نبض الشارع.. والتي قدمها بشكل مثير بأحداثها.
جغرافية الأحداث من صنعاء إلى تعز وذلك الريف الغني بتراثه وعلاقاته الإنسانية.. ثم جغرافية المناطق التي عبروها في بحثهم عن محمود من قلب اليمن تعز إلى الحديدة ومنافذ السفر بين البلدين ثم جيزان ومدن الحجاز وتقديم كل ذلك بشكل جميل ومبهج. وهكذا استطاع الكاتب تقديم جغرافية وطبيعة أمكنة الرواية بشكل مغاير.
سلاسة السرد وترابط الأحداث أجاده الكاتب.. وهذا هو سر العمل الروائي الناجح.. فكثيرا ما يجد القارئ نفسه جزءاٍ من تلك الشخصيات وذلك المجتمع المتخيل الذي يعتقد بأنه بالفعل مجتمعه.
وأخيرا ذلك الأسلوب أو التقنية التي اتبعها الكاتب في هذا العمل.. أسلوب المنادمة أو الدردشة بين شخصين ليجعلنا كقراء شركاء السارد فيما يحكي ولم يكتف بعلي كراوي أو بالكاتب الذي نجده في بداية الرواية ونهايتها يبرز كصانع للعمل.. إضافة إلى دخول ليلي بشكل بسيط وهي تحكي لعلي كراوية داخلية.. وكذلك أبو سعيد حين يسرد معاناته بعد فراق ابنه محمود.
جاء على الغلاف الأخير للرواية”اختمار الذاكرة المشحون بالوعكات المتكررة يسلمك في نهاية الأمر إلى حالة من اللام بالاة حيث لا عتب يجدي ولا لوم يستفز.. تحتاج بعدها إلى عارض استثنائي يهز وجدانك بقوة عشرة ريختر لتعود لحالتك الوجودية الطبيعية”