الحضارات الإنسانية الأولى التي بزغت منذ انبلاج فجر التاريخ حضارات سادت ثم بادت شادت ثم هِوِت. لكن شواهدها بقيت في بطون الأرض إلى أن اكتشف الآثاريون تلكم الكنوز الدفينة تحت الثرى فدرسوها وقرأوا نقوشها وفكوا رموزها ليكشفوا للأجيال عظمة تلك الحضارات القديمة.
ويكشف كتاب “الحضارات الأولى.. الأصول والأساطير” لمؤلفه الآثاري البريطاني “غلين دانيال” وبترجمة الناقد العراقي سعيد الغانمي للقارئ تلك الأسرار والخفايا الدفينة في الحضارات الأولى للإنسانية.
كما يتناول أصول الحضارات أي الحضارات التي تشكلت في سبع مناطق في العالم وكان بعضها حضارات “أصيلة” سابقة على اليونان مثل سومر ومصر وبعضها مستقل عنها تماماٍ مثل حضارة وادي السند وصين شانغ والحضارات الأميركية الثلاث: الازتيك والمايا وبيرو.
ويحتوي الكتاب على ثمانية فصول مع مقدمة الترجمة العربية لسعيد الغانمي الذي عرض فيها لنسخة الكتاب المترجم وإشكالية انتماء التاريخ بمعناه التأملي إلى النظام الثقافي الثاني إلى النظام العقلي والكنائي. ثم يْعرج المترجم إلى إيضاح كيف قْوبلِ “علم الآثار” باستخفاف المؤرخين العقلانيين فوْصمِ بأنه “علم القمامة” أي علم هذا الذي ينكب على دراسة مزابل الشعوب القديمة وفضلات المجتمعات الموصومة بالبدائية¿ ماذا يبقى من “كبرياء” التاريخ إذا انصرف إلى التأمل في الجرار والأقداح والفؤوس والألعاب والآجْر من مخلفات شعوب بادت واندثرت¿
الحضارات السبع
يقدم الكتاب خلاصة نقدية وجيزة لتكون الحضارات السبع المذكورة من وجهة نظر علم الآثار وصلاتها المحتلمة ببعضها والاتصالات بينها إذا وجدت وليس من شك في أن موضوع نشأة الحضارات موضوع واسع مترامي الأطراف غير أن فضيلة هذا الكتاب أنه يقدم إلمامة سريعة وعميقة يستطيع أن يحيط بها القارئ غير المختص بما يستكشفه علم الآثار في مواقع الحضارات المذكورة على نحو مبسط دون أن يقع في تبسيط مْخلُ ويتمكن من ربط كل شيء في النهاية في نظريته عن اتحاد المدن.
ويرى غلين دانيال أن من مقومات الحضارة وجود عنصرين من ثلاثة عناصر: المدن والكتابة وساحات الاحتفالات العامة إذ لا بد للحضارة من نظام كتابي تستعمله للتدوين ومدينة لا يقل سكانها عن خمسة آلاف نسمة وساحات احتفالات يتجمع فيها السكان في المناسبات العبادية أو الاجتماعية.
لكن الأهم في رأيه هو ما يسميه “اتحاد المدن” أو تفاعلها الذي من شأنه أن يفضي إلى تكوين “دويلات المدن” و”اتحاد المدن” فكرة شديدة الشبه بفكرة العصبية عند ابن خلدون. وكما تدفع العصبية القبائل البدوية في المجتمع البدوي إلى الاتحاد لتكوين عصبة أو سلالة كذلك يدفع اتحاد المدن المجتمعات الحضرية الأولى إلى الاتحاد في عصبة مدينة لتشكيل “دولة المدينة” فالحضارة هي ابنة المدينة والكتابة ولكن برأيه أيضاٍ وخلافاٍ لهذه الحضارات الأربع فقد نشأت الحضارات الأمريكية الثلاث “الازتيك والمايا وبيرو” في وقت متأخر عنها ولكن بمنعزل عن أي اتصال بها مع أن المؤلف يشير إلى العثور على دمىٍ وألعاب ذات عجلات ويلاحظ أن هذه الحضارات لم تستعمل العجلات أبداٍ لا في العربات ولا المراكب ولا في عجلة الخزاف ويرجح وجود اتصالات لها مع اليابان أو الصين في فترة مجهولة.
الحضارة السومرية
أوضح غلين دانيال في الفصل الأول من كتابه بأنه حتى عصر “لوبوك” كان تاريخ الإنسان يْقسم تقليدياٍ إلى حديث ووسط وقديم وحدد لوبوك القسم الرابع منه أعني ما قبل التاريخ – وهي تسمية غير مْوفقة نوعاٍ ما- تعني فعلياٍ تاريخ ما قبل الكتابة وإن صورتنا عن ماضي الإنسان البعيد مْستمدة من علم الآثار بكل ما يرتبط به من حقول علمية كعلم المْستحاثات الإنسانية. ثم تناول معنى مصطلح “حضارة” و”ثقافة” وجذورهما التاريخية.
وتناول المؤلف في الفصل الثاني تفاصيل حضارة سومر القديمة وأراضيها وخصوبتها وزراعتها وذكر وصف المؤرخ هيرودت للمعبد الكبير “الزقورة” مع الإشارة إلى وجود سمتين خاصتين اقترنتا في أذهان المؤرخين والآثاريين لمدة طويلة ببلاد الرافدين المْبكرة في العراق وهما وجود التلول والكتابة المسمارية.
فيما أفرد الفصل الثالث لإيراد شواهد تاريخية تغطي حقبة فجر السلالات السومرية الجزء من الألفية الثالثة من عام 2800- 2400ق.م وتنتهي بالغزو الذي شنه على سومر ملك الشمال السامي سرجون الأكدي الأول. وكانت كل مدينة تمثل مركز دولة مدينة صغيرة وتنتظم سومر على أساس 15 إلى 20 دولة مدينة صغيرة تمتاز كل منها بالاستقلال سياسياٍ. بعدها قدم المؤلف للفرق بين اللغتين السومرية والأكدية والتمايز بينهما.
مصúر ووادي السند
لقد خلقت حضارة مصر القديمة مع الحضارات العراقية المْتعاقبة حضارات قائمة على الري. وقد تحدث دانيال في الفصل الرابع عن أثر النيل في حياة المصريين القدامى كما تطرق إلى طاقم نابليون بونابرت العلمي المصري الذي عمل أثناء الحملة وفك الشفرة التي كانت مفتاحاٍ لمصر القديمة في الأقل فيما يتعلق بماضيها الكتابي كما عرض لبعض الأدلة الأثرية منها ثلاثة أختامُ اسطوانية عراقية من حقبة أوروك الأخيرة أو الكتابية الأولى مع بيان للمعمار المصري خاصة في أسلوب نصبي في البناء يقوم على آجْر اللِبن الذي استخدموه بدلاٍ من القصب والبِرúدي وجذوع النخيل وجِدúل الحْصúرِان. وأعقب ذلك الحديث المْفصل عن حضارة أخرى هي حضارة السند في هذا الفصل.
الصين وأمريكا
يطوف الفصل الخامس في سياحة تاريخية عن حضارة الصينيين عند عدد من المؤرخين والتاريخيين والآثاريين الذين حكوا شواهد على حضارة النهر الأصفر كما تناول الأسر الحاكمة الصينية واللْقى الآثارية المْكتشفة في البلاد المترامية الأطراف. بينما خصص الفصل الثامن للحديث عن اكتشاف العالم الجديد – أميركا- ذاكراٍ المراحل التاريخية والشواهد والاستشهادات لعدد من المؤرخين وذكر أن الأزتيك الذين أسسوا مدينة «تينو كتتلان” التي صارت فيما بعد “مكسيكو” شعب مْحارب إلى حد كبير بينما كان “المايا” كشعب بنائين ممتازين وخلفوا منحوتات رائعة في حين عاش “الأنكا” في عصر برونزي كامل حين اكتشفهم الأسبان.
وفي الفصل السابع ركز دانيال على ثلاث قضايا هي محل اتفاق عام والمْتمثلة في: “أول سكنى في أميركا والأصل الأميركي المستقل للزراعة واتحاد المدن في أميركا النووية” أما الفصل الأخير فيدور حول “علم الآثار وأصول الحضارة” وفيه إيجاز للفصول السابقة وإيضاح لدور كل من الحضارات السبع التي هي أساس الحضارة الإنسانية اليوم.