في يوم السبت الخامس عشر من شهر رمضان 1419هـ رحل الشيخ القارئ محمد حسين عامر مخلفا تلاوته التي تنفذ إلى أعماق الأرواح وتفتح بكلام الله مغاليق القلوب وتغسل بالنور الكريم الأنفس من انشغالاتها باليومي والأرضي والعابر فاتحة نوافذ جليلة للتدبر في السماوي والروحي والأبدي الخالد
. ورحيل شيخ القراءات السبع في شهر رمضان كان ضربا من التكريم الذي منحه الله لهذا الشيخ الجليل فما يربط الشيخ محمد حسين عامر برمضان أعصى من أن يطمسه رحيل الجسد فقد صارت تلاوة المرحوم طقسا من الطقوس الدينية في رمضان إذ تلازمت مع رؤية هلال الشهر الكريم في ذاكرة اليمنيين وفي لحظات الالتزام الديني والنظام الدقيق لحظة ماقبل الإفطار ولحظات ماقبل صلاة الفجر لحظات الانتظار لبدء الامتناع ولحظات الانتظار لرفع الامتناع.
وتلاوة الشيخ عامر تحمل خصوصية في الأداء وتمتلك سمات متفردة تستحق أن تؤسس لمدرسة قرائية يمنية خاصة إذا أدركنا أن هذه التلاوة هي امتداد لتلاوة سابقة لها ومحاكاة لتلاوة إمام جامع المظفر بتعز الشيخ (يحيى الحدائي).
وفي تقديري أن ذلك الامتداد قد يكون إلى ما هو أبعد من تلاوة الشيخ الحدائي إمام جامع المظفر خاصة إذا ما تنبهنا إلى خيوط التشابه بين تلاوة الشيخ محمد حسين عامر والأداء الجماعي لسورة (يس) والآيات التي كان يقرأها اليمنيون في كثير من المناطق في مراسيم الدفن لموتاهم
. ما أعنيه أن تلاوة الشيخ محمد حسين عامر هي أنموذج للتلاوة اليمنية ما يجعلها تستحق أن تكون بذرة تأسيس وريادة لمدرسة قراءة يمنية حديثة .
وهذا الاستحقاق ليس اعتباطا ولكن لما حمل صوت المقرئ المرحوم في نبراته وبحاته و تقطيعاته ووقفه ووصله صورة المعتقد الديني اليمني في خلوصه وفقهه وحذقه و عربيته وتقديسه وصدق إيمانه ومتانة صلته مع خالقه والتعلق الشديد بكتابه الكريم وتمكنه من كل خلية من خلايا روحه .
ولا يعني هذا من جهة أخرى أن خصوصية التلاوة اليمنية مقتصرة على هذا النموذج فالتنوع في أساليب وطرائق الإنشاد والتلاوة اليمنية مادة ثرية و متنوعة وخصبة لكن يمكن أن نعد تلاوة الشيخ محمد حسين عامر القمة الأعلى وإن جاورتها كثير من القمم.
والقرآن الكريم نص معجز يمتلك سر إعجاز هـ في أصواته وكلماته وتراكيبهونظمه وتشريعاته وأحكامه. ونحن حين نتحدث عن دور المقرئ فإننا هنا نتحدث عن كفاءة الأداء وثمة تداخلات و تخارجات بين الأداء والدلالة أو بين الدلالة ودلالة الأداء فالدلالة كامنة في لغة النص وأصواته وكلماته أما الأداء فهو آلية نقل تلك الدلالات المكتوبة بالصوت المرتل مصحوبة بخصوصيات الترتيل .
ولا تتعارض دلالات الأداء مع الدلالات النصية لأن الأولى متعلقة بالضرورة بالأخيرة وناقلة لها كونها الأصل الذي تتفق عليه كل التلوينات الصوتية للتلاوات.
ويبقى أن نشير إلى أن دلالة الصوت هي ما تميز المقرئ عن اللا مقرئ والمقرئ عن غيره من المقرئين فسورة واحدة أو آية واحدة من كلام الله العظيم نسمعها بأصوات مشائخ قراء نجد أننا ومع كل سماع نعيش حالة روحانية جديدة لها ظلالها التي لا تتكرر وكذا الأمر مع سماعنا لصوت الشيخ محمد حسين عامر الذي رأى بصوته ما لم يره المبصرون بأبصارهم والذي استطاع بصدق إيمانه ونقاء معتقده ونفاذ بصيرته – أن يجعل المبصرين يروا بأسماعهم ما لم تقو على رؤيته أعينهم. وستجد نفسك وأنت تصغي للشيخ عامر و لنفس الآية بنفس الأداء أنك تسبح في ملكوت إلهي وتستشعر ظلالا لحالات روحانية عليا وستدرك أيضا وأنت في رحاب تلاوة هذا الصوت المتفرد لكلام الله العظيم أننا لا ننزل نهر الإيمان مرتين .
لقد كان علماؤنا الأوائل على وعي في تسميتهم للقراء ونسبتهم إلى الجغرافيا التي يقيمون فيها رغم أن القراء كانوا من الصحابة الذين خرجوا إلى الشام والكوفة والبصرة ومن التابعين الدعاة الذين أرسلوا لتعليم الناس القرآن والذين وصلوا إلى الأندلس وشمال أفريقيا إلا أن طرائق تلك القراءات و الأداءات مازالت إلى اليوم حية في أرجاء الجغرافية الإسلامية مؤكدة بتلويناتها على سر إعجاز النص الواحد المخلد لجماليات العربية المتفردة في إمكانياتها الخارقة التي تكللت بنص القرآن الكريم وابتدأت منه مسيرة الدهشة التي لا تنضب .