الحوار من وجهة نظر الديمقراطية الليبرالية

ترتكز الحياة السياسية والاجتماعية في الدول والمجتمعات السياسية السائرة في فلك الديمقراطية الليبرالية كنظام لحياتها السياسية ونهجها السياسي على فكرة الاعتراف الشرعي والواقعي بوجود الاختلاف والتنافس وحتى الصراع بين قوى ونخب وصفوات المجتمع السياسي الفاعلة في العملية السياسية عبر التنظيمات السياسية المعبرة عنها وذلك بسبب تباين الرؤى والتوجهات السياسية والإيديولوجية واختلاف الأفكار والأهواء والمصالح بين قادتها وزعمائهم ومسئوليها ورموزها.
وظواهر التزاحم والتنافس بين أفراد المجتمع في علاقاتهم المعيشية والاجتماعية وكذلك الصراعات السياسية والاجتماعية بين قادة البلاد وأهل الحل والعقد فيها من مختلف التوجهات والجذور على الحكم والسلطة والمال والجاه كلها هي ظواهر طبيعية غريزية وفطرية نابعة من الطبع وفي السلوك البشري والإنساني ولا يمكن تجاهلها أو إنكارها وهي في الحقيقة أساس بناء وقيام الدول والحضارات وأساس تطورها وتقدمها في مختلف العلوم والمعارف وفي شتى أوجه الحياة وميادينها وما يرتبط بها من تقنيات تطبيقية من نظم وفنون إدارية وكل ظواهر صحية تعبر عن حيوية الإنسان ونزوعه المستمر إلى الحرية وتحقيق ذاته في الحياة.
وقد وجدت الدول والحكومات والنْظم السياسية وما يرتبط بها من أنظمة وقوانين ومن مؤسسات عامة وخاصة ومن سياسات وبرامج تربوية وتعليمية وإعلامية من أجل تنظيم وتهذيب وترشيد هذه الميول والتوجهات والأهواء المتعارضة والعمل والسعي الدائم في سبيل حل خلافاتها ومن أجل إزالة التوتر والاحتقان بين الفرد والمجتمع بين الحرية والدولة والنظام بين الصالح العام والصالح الخاص ولا خوف ولا خطر من وجود هذه الظواهر في حياة الناس والمجتمعات السياسية مادام الحراك والعراك السياسي والاجتماعي يتم بشكل سلمي وديمقراطي وحضاري ولا يمتد إلى خرق الشرعية الدستورية والسياسية ولا يهدد النظام العام والسلام الاجتماعي ولا يخرج عن ثوابت الدولة والوطن وقيمه العامة ومصالحه العليا التي يجب أن تعلو دائماٍ وأبداٍ على جميع الخلافات والمصالح الجزئية الشخصية والحزبية والمذهبية والطائفية والفئوية والسلالية والمواطن في الدول والمجتمعات الديمقراطية المستقرة يمتاز بالوعي والنضوج السياسي ويدرك برشد وعقلانية حرياته وحقوقه وواجباته والتزاماته
أولاٍ: تطور مفهوم الليبرالية في الوقت الحاضر:
الليبرالية في مجال العموميات وليس في مجال التفصيلات والاختلافات الجزئية المرتبطة بذلك كان يراد بها أو بهذا المصطلح من الناحية السياسية والاقتصادية فكرة التحررية وقد ظهرت الليبرالية في القرن السابع عشر الميلادي وارتبط ظهورها بقيام الثورة الصناعية في أوروبا وببروز الطبقة الوسطى من رجال الصناعة والتجارة والمال -البرجوازية- المعادية للأوضاع القائمة حينذاك في أوروبا والممثلة في الإقطاع الارستقراطي ورجال الكنيسة وفي الحكام المستبدين وكانت الليبرالية تسعى في المجال السياسي إلى إقامة حكومات برلمانية تقوم على الانتخابات العامة وعلى الوكالة النيابية أو التمثيلية وعلى الفصل بين السلطات منعاٍ للاستبداد وحماية للحقوق والحريات وتأكيد الحريات والحقوق الأساسية للإنسان وفي المجال الاقتصادي كانت تهدف إلى الانتصار لحرية الفرد والمبادرات الفردية وحرية التجارة الخارجية وعدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية إلا في أضيق الحدود ويمكن تعريف الليبرالية في معناها الضيق والمحدود بأنها: تعني وتعبر عن موقف وسط بين المذاهب المحافظة من ناحية والمذاهب الاشتراكية من ناحية أخرى فهي تحبذ الإصلاح وتدعو إليه ولكن تعارض وتقاوم الراديكالية وأنصارها ودعاتها وكان الفكر الماركسي القديم يصفها وينعتها بأنها نظرية سياسية رأسمالية                          ويربطها دائماٍ بالحرية الاقتصادية.
وقد ارتبط بالفكر الليبرالي ونظر له ودعا إليه عدد كبير من رجال الفكر الغربيين مثل جون لوك ومونتسكيو وفولتير واندمج ضمن الليبرالية كذلك مدرسة الفيزيوقراطية الفرنسية ومن روادها في فرنسا كوزني وناصر الليبرالية ساسه كبار مثل جفرسون وقد استثمرت واستغلت الليبرالية في تنمية الفكر الوطني والفكر القومي المتطرف والدولة القومية وفي الفكر التطوري كما تجسد هذا في كتابات باتيست ولا مارك ومالثوس ثم العلم الكبير للفكر التطوري دارون واستثمرت واستغلت الليبرالية كذلك في تحرك الموجات الأخيرة للاستعمار الأوروبي وتكالب الحكومات الأوروبية على بلدان وثروات شعوب العالم الثالث وفي صراعات وحروب الدول الغربية الاستعمارية ذاتها وفي قيام وتطور وتطرف الحركات والتنظيمات السياسية اليمينية الأوربية العنصرية المتطرفة مثل الفاشية الايطالية والنازية الألمانية.
المفهوم الحالي لليبرالية
وهو يترادف في الوقت الحاضر مع ما يسميه الناس بالديمقراطية في مقابل الشيوعية وعندنا وكما نرى فإن الليبرالية في مفهومها الراهن والحالي يتجاوز مفهوم الديمقراطية إذ يضم إلى جانب الديمقراطية فلسفات ونظريات أخرى تندرج كلها في إطار المفهوم العام لليبرالية فالليبرالية الغربية الرأسمالية هي الإطار العام للنظم السياسية الديمقراطية الغربية ولمختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والعلمية والتكنولوجية وفي مجال البحث العلمي ويندرج ضمنها في الدفاع عن فلسفات غربية كبرى مثل “الوضعية” والوضعية المنطقية والبراجماتية والوجودية كما يدخل فيها ويرتبط بها قضية وفكرة وظاهرة العلمانية وفكرة وقضية وظاهرة العولمة التي يسعى أنصارها من ساسة وقادة ومفكرين إلى تعميم نشرها على مختلف شعوب العالم في إطار ما يسمى بالقرية الكونية أو المدنية الكونية الواحدة بعد أن تداخلت شعوب العالم وانتفت المسافات والعزلة بينها وتداخلت حياتها في كل شيء أمنياٍ وسياسياٍ واقتصادياٍ واجتماعياٍ وفي القدر والمصير.
ثانياٍ:  الديمقراطية الليبرالية وقواعد الحكم الديمقراطي الليبرالي:
الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة وفقاٍ لمنظور الديمقراطية الليبرالية هي قيم وغايات ومْثل عليا يصعب تحقيقها على أرض الواقع بصورة تامة ومطلقة والعملية السياسية والحراك السياسي تسير في الدول الديمقراطية في اتجاه هذه المثل والغايات السابقة بدرجات متفاوتة والطريق النضالي في سبيلها طويل وشاق ولكن المهم أن تستمر العملية وان تستمر المسيرة والنجاح يقاس بمدى ايجابيات مايتحقق على أرض الواقع وعلى حساب السلبيات وتناقض السلبيات والديمقراطية بالمفهوم الليبرالي تدور وتتمحور حول الحرية السياسية والمشاركة السياسية من قبل المواطنين المؤهلين شرعياٍ وقانونياٍ في إدارة شؤون الحكم والمجتمع السياسي وفي عملية صنع القرار واتخاذ القرار وفي مراقبة وتقييم القرار بعد صنعه واتخاذه.
والديمقراطية ليست شعارات ومقولات تردد وتقال وإنما لابد أن تتجسد على أرض الواقع والممارسة وان تحاط وتحمي بمجموعة من الضمانات والمبادئ والآليات والمؤسسات ويدخل في مقدمة ذلك الانتخابات والاستفتاءات العامة الدورية الحرة والنزيهة والوكالة التمثيلية والنيابية والفصل بين السلطات لمنع الاستبداد وحماية الحريات واستقلال القضاء وسيادة الدستور والنظام والقانون والتعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي الدوري للسلطة والحكم وغير ذلك من الضمانات والركائز الأخرى .
ومن وجهة نظر الديمقراطية الليبرالية فان العملية السياسية والحراك السياسي والاجتماعي في أي دولة أو مجتمع سياسي إذا لم ترتكز قولاٍ وفعلاٍ على هذه المبادئ والمؤسسات فهي ديمقراطية شكلية وغير حقيقية ولذا فان الفكر السياسي الغربي الليبرالي الرأسمالي يرفض ما كان يسمى في دولة المنظومة الاشتراكية السابقة بزعامة الاتحاد السوفيتي قبل انهيارها عام 1991م بالديمقراطية الشعبية التي كانت تقوم على فكرة التنظيم السياسي الشمولي الواحد وعلى فكرة الديمقراطية المركزية التي تحصر النقد والنقاش داخل الحزب الحاكم وحده قبل اتخاذ القرار والطاعة التامة من الجميع بعد اتخاذ القرار ولأن هذا النوع من الديمقراطية الشكلية لم يكن الهدف منه سوى حشد التأييد الشعبي لسياسات الحكم الشيوعي وعلى أساس سلطوي لا يحفظ للمواطن حريته وكرامته الحقيقية ولا يسمح له بالتعبير عن مبادراته الشخصية كذلك فإن الفكر السياسي الغربي الليبرالي يرفض مايوصف في دول العالم بالديمقراطية الشعبوية التي تفتقر إلى وجود المؤسسات والضمانات اللازمة للديمقراطية الحقيقية إذ تهتم فقط بالانتخابات العامة والقائمة على التجنيد والتعبئة السلطوية غير الديمقراطية وما ينتج عنها من نتائج مبالغ فيها ولا تعبر عن الواقع.
ومن أهم معالم الحياة السياسية في دول ومجتمعات الديمقراطية الليبرالية المتقدمة والمستقرة ما يلي:-
-. الاعتراف بأن الديمقراطية والأحزاب السياسية ليست هي الصيغة المثلى ولكنها هي الصيغة العملية المتاحة ورغم ما يرد عليها من نقد وملاحظات كثيرة إلا أن محاسنها وايجابياتها تطغى وتزيد على سلبياتها وهناك من يقول بصعوبة القيام بأي إصلاح حقيقي أو تحقيق أية تطورات سياسية فعلية بدونها.
-. إن زمام الحرية والمشاركة السياسية يجب أن يكون بيد المؤسسات الدستورية والقانونية العامة المتجذرة في المجتمع والقادرة على البقاء والتطور الذاتي بعيداٍ عن أهواء القيادات المتعاقبة على إدارتها سياسية أو إدارية أو اجتماعية أو قضائية أو تشريعية.
 -. الأحزاب السياسية المتجذرة في المجتمع هي ضرورة من ضرورات الاستقرار للنظام السياسي وللحياة السياسية ومن معالم إبراز شخصية الأمة.
-. مشاركة الحزب السياسي في الحكم وفي العملية السياسية يسبقها دائماٍ ضرورة تجذير وجوده في المجتمع وحصوله على نسبة من مقاعد السلطة التشريعية بحد أدنى لا يقل عن 5?.
-. العملية السياسية تدور دائماٍ في إطار وتحت سقف ثوابت الوطن والدولة وقيم المجتمع وأهدافه العليا وإعطائها الأولوية والسيادة على جميع المتغيرات الأخرى الحزبية والشخصية والمذهبية والفئوية والسلالية.. الخ.
-. من أهداف الديمقراطية والسياسة العامة والأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية المتقدمة العمل على نشر ثقافة الحوار والتسامح وتعليم وتربية المواطن وتوعيته بحقوقه وبواجباته تجاه الوطن والمصلحة العامة.
-. تلتزم الأقلية بإرادة الشعب وتوجهاته العامة كما يعبر عنها في الانتخابات الدورية العامة وتحترم حق الأغلبية التي جاءت عبر صناديق الاقتراع العام في إدارة الحكم وشؤون البلاد السياسية والإدارية ومن حق الأقلية أن تعارض وتنتقد في حدود النظام والقانون ومن حقها أن تنظم نفسها وان تدعو إلى أفكارها وبرامجها ولكن عليها أن تراعي الخط الفاصل بين حق المعارضة والنقد من جهة وبين الهدم والتخريب من جهة أخرى.
-. إن حاضر البلاد ومستقبلها واستقرارها ونموها وتطورها وحماية سيادتها واستقلالها ومكانتها الخارجية هي قضية ومسألة مجتمعية تقع مسؤوليتها على عاتق جميع أبنائها الحاكم والمعارض والكبير والصغير وبلا استثناء .
أستاذ العلوم السياسية جامعة صنعاء

قد يعجبك ايضا