سوف نناقش هنا مشكلة “النشر” في اليمن بإيجاز ونذكر الحقيقة المؤلمة التي لا تصدق وهي أن اليمن ليس فيها سوى ناشر واحد هو نبيل عبادي صاحب “مركز عبادي للدراسات والنشر”.
قبل عام 2011 كان هذا الناشر الوحيد يصدر في السنة ما بين 100 – 150 عنواناٍ جديداٍ وكان النظام المعمول به هو أن يتقاسم الناشر والمؤلف تكاليف الطباعة ثم يستعيد المؤلف المبلغ الذي أنفقه على طباعة كتابه من خلال البيع التشجيعي للمؤسسات الحكومية وفي الصدارة منها وزارة الثقافة كذلك كان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين – وهو نقابة مستقلة – يساهم في دعم المؤلفين ويشتري كمية من مطبوعاتهم.
بهذه الطريقة التعاونية من الطرفين: الناشر والمؤلف دارت عجلة التأليف الأدبي في اليمن خلال العقدين الماضيين وصدر ما يْقارب الثلاثة آلاف عنوان عن “مركز عبادي”.
بعد عام 2011 حدث تراجع حاد في إصدارات “مركز عبادي للدراسات والنشر” بسبب الأزمة المالية التي تعاني منها مؤسسات الدولة وتوقفها عن دعم المؤلفين الذين كانت تشتري كمية من كتبهم وكذلك دخول اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في حالة موت سريري فلم يعد قادراٍ على مساعدة أحد ولا حتى مساعدة نفسه.
ثمة كارثة أكبر تلوح في الأفق.. الناشر (نبيل عبادي) يْفكر في التقاعد – هو رجل إنجليزي في دقة تعاملاته وطريقة تفكيره- وأن يْحول دار النشر التي يملكها إلى مؤسسة وقفية تمنح جائزة سنوية بهدف تخليد ذكراه بعد وفاته.
طبعاٍ هذا من حقه وليس من شأن أحد أن يْثنيه عن خياراته في الحياة فهو قد قام بواجبه كاملاٍ في خدمة الثقافة في اليمن وآن لهذا المحارب أن يستريح بعد كفاح بطولي لإصدار هذه الآلاف من العناوين.
لكن هذا يعني أن الشمعة الوحيدة التي بددت الظلام في اليمن سوف تنطفئ وستصبح اليمن دولة خالية من دور النشر وسيجد المؤلفون اليمنيون أنفسهم في صحراء الربع الخالي القاحلة وما من مورد للماء ينقذهم من الهلاك عطشاٍ.
قبل عام 2011 كانت عدة جهات تساهم في حركة النشر- بنسب متفاوتة- إلا أنه بعد قيام ثورة التغيير حدث انهيار دراماتيكي غير مبرر.. فتوقف اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين إلى أجل غير مسمى عن النشر. ومنذ عام 2012 لم يصدر أي كتاب جديد عن وزارة الثقافة بسبب تراكم مديونيتها لدى المطابع وعجزها عن السداد. وأما الهيئة العامة للكتاب فلعلها الجهة الوحيدة في البلد التي لا زالت تقاوم وتْصدر بشق الأنفس عشرين عنواناٍ في السنة.. مع العلم أن وزارة المالية قد تقضي على هذا الهامش الأخير في أقرب جولة تقشف قادمة.
هناك قلة محدودة تمكنت من طباعة أعمالها في القاهرة وبيروت ولكن بديهياٍ لا تْحسب هذه الأعمال على حركة النشر في اليمن. كما أن هذه الأعمال لا تصل إلى القارئ اليمني لأسباب سنشرحها لاحقاٍ.
فيما يتعلق بالكتاب تواجه اليمن مشكلة عميقة.. فالكتب التي تصدر في القاهرة وبيروت والمدن العربية الأخرى لا تصل إلى اليمن إلا عبر الشحن الجوي فقط ما يجعل الكتب باهظة الثمن. حالياٍ لا توجد طريقة لشحن الكتب برياٍ أو بحرياٍ ما يعني أن مشكلة غلاء الكتاب ستظل قائمة دون حل. حتى مع هذه الكلفة العالية للشحن كانت بعض المكتبات اليمنية تستورد الكتب من القاهرة وبيروت وظلت الرسوم الجمركية المخفضة على الكتب (5%) معمولاٍ بها حتى عام 2011 لكن بعد الثورة وبسبب تدهور الأداء الاقتصادي ارتفعت الرسوم الجمركية إلى 30% ما أدى إلى عزوف المكتبات اليمنية عن استيراد الكتب وبعضها اتجه إلى تزوير الطبعات المصرية واللبنانية وبيعها للقراء على أنها طبعات أصلية.
يشكل معرض صنعاء الدولي للكتاب الوسيلة المتاحة لحصول المثقفين على أحدث إصدارات دور النشر العربية إلا أنه وبسبب الاضطرابات السياسية وتزايد أعمال العنف لم يْنظم معرض الكتاب في عام 2014 ما أدى إلى إغلاق المنفذ الأخير لدخول الكتب إلى اليمن.. وإذا استمر الحال على هذا المنوال ولم تتمكن صنعاء من إقامة معرضها السنوي للكتاب خلال السنوات القادمة فإن هذا سيجعلنا نجازف بالقول أن اليمن ستكون دولة خالية من الكتب أيضاٍ!
كان من المؤمل أن تؤدي ثورة التغيير عام 2011 إلى حدوث انفراج ثقافي ملموس.. ومن ذلك على سبيل المثال ظهور دور نشر في صنعاء وعدن وتعز وغيرها من المدن اليمنية. عدم نشوء دور للنشر شكل بالنسبة لي خيبة أمل كبيرة.. كان من المتوقع أن يغمر اليمن طوفان من الكتب التي لم يكن النظام السابق يسمح بدخولها وأن الناس سوف تتذوق الثمار التي حْرمت منها.. إلا أن هذا الأمر لم يحصل البتة. هكذا يتضح مثلاٍ أن مشروع الثورة السياسي كان منفصلاٍ عن توأمه المشروع الثقافي. ونتيجة لهذا الاستغناء الغبي عن “قوة الثقافة” تهاوى الربيع العربي في اليمن ولم يبق منه سوى الأطلال.
يمكننا أن نرسم خطاٍ يواصل الانحدار بثبات فيما يتعلق بالمكتبات التي تبيع الكتب.. عددها يتناقص بسبب الإفلاس مساحاتها تنكمش تحت ضغط الإيجار وفي حالات أخرى يْفضل الجيل الجديد تغيير النشاط والاستثمار في مجالات أكثر ربحية.
هذا الوضع الذي يبدو حالك السواد ويؤشر إلى دولة تعيش في القرون الوسطى يمكن تغييره جذرياٍ بإصدار عدد من القرارات الحكومية الحكيمة! أحد هذه القرارات يتعلق بإعفاء الكتب من الرسوم الجمركية وهذا القرار الشديد البساطة سيؤدي إلى تدفق الكتب من كل حدب وصوب وسينتج عنه ارتفاع في معدلات القراءة وعودة الروح إلى المكتبات المتخصصة ببيع الكتب والأهم هو الحصول على المعرفة التي لا غنى لأي شعب عنها. والقرار الثاني يتعلق بإعفاء الورق من الرسوم الجمركية بهدف تشجيع صناعة النشر المحلية وأيضاٍ تشجيع طباعة المجلات الثقافية التي توقف معظمها عن الصدور بسبب غلاء الورق.