إن المزاج العام العربي لا يستطيع ولا يمكن أن يتكيف أو يتعايش او يتعامل مع وجود الكيان السرطاني والاستيطاني الصهيوني الإسرائيلي في المنطقة العربية، فقد باءت بالفشل كل الخطط والاستراتيجيات الغربية في ترسيخ هذا الكيان عبر توقيع معاهدات سلام بين بعض الدول العربية مع هذا الكيان.. جميعها لم تفلح في تقبل هذا الكيان حتى صفقة القرن التي كادت أن تخرج إلى الوجود وتقوم بتصفية القضية الفلسطينية انتهت ولم يعد لها ذكر لا من قريب أو بعيد.
هذا المزاج لا يمكن ولا يتخيل أن يجد نفسه أمام القتلة من بني صهيون سواء في التعاملات الاقتصادية أو الثقافية أو في المؤتمرات السياسية، فمن فترة إلى فترة يتكشف للعالم العربي والدولي عدم الإمكانية في التعامل مع كيان غاصب وقاتل وعنصري يجده يتبجح ويتحدث عن معاداة السامية وعن حقوق الإنسان وعن الدفاع عن النفس، فيما يعمل خلاف ذلك، بل ويظهر علنا أمام خريطة تكشف ما تسمى “اسرائيل الكبرى”، فإذا وجد استطلاع رأي عن ذلك فالنتيجة ستكون ساحقة ضد وجود هذا الكيان وضد التعامل معه..
لقد اضطرت عدد من الدول العربية في عقد معاهدات سلام مع هذا الكيان لتأطيره في حيز معين، لكن هذه المعاهدات لا تزال تروح في مسارات معينة، ويظهر أن شعوب هذه الأقطار معارضة لها على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على البعض منها.
ونجد أن مواقف جميع المفكرين والأدباء والمثقفين في الوطن العربي ثابتة ومشرفة تجاه هذا الكيان في رفع سلاح الكلمة والمقاومة تجاه هذا الكيان اللقيط، ففي تاريخنا الحديث الكثير من الرموز الثقافية والفكرية الرافضة لجميع أشكال التطبيع مع هذا الكيان بل واستخدموا سلاح الكلمة والموقف ومنهم الدكتور عبدالوهاب المسيري.
فمن أهم أعماله “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” وهو مشروعه الأضخم الذي استغرق منه قرابة 20 عاماً في 8 مجلدات، ويُعد المرجع الأهم عربياً لفهم الصهيونية من الداخل، وهي من أهم وأشمل الدراسات الأكاديمية حول اليهود تاريخاً وجذوراً.
لقد خاض الدكتور المسيري معركة فكرية وتاريخية كشف فيها جذور هذا الكيان اللقيط الذي يفتقد لكل مقومات الاستمرار والبقاء، وكانت أهم معاركه الفكرية والتاريخية والسياسية، ويوضح المسيرى كيف تحولت الصهيونية إلى حركة سياسية، تهدف لإقامة دولة يهودية في فلسطين، مع تحليل الأسس الدينية والفلسفية التي تقوم عليها، بما في ذلك التوراة والتلمود ورؤية الشعب اليهودي كشعب مختار.
ويبرز الدكتور المسيرى التناقضات الداخلية في المشروع الصهيوني، والإنجازات التي حققتها الدولة الصهيونية… كما تحلل الموسوعة دور القوى الغربية في دعم الصهيونية والسيطرة على الشرق الأوسط، وتوضح التأثيرات الاستراتيجية لهذا التوجه، مع ربط الفكر الصهيوني بممارساته الاجتماعية والسياسية وتأثيره على العلاقة بين اليهود والفلسطينيين والمجتمعات العربية ..
لقد كان الدكتور المسيري نموذجاً فريداً للباحث الجاد، فهو ليس مجرد كاتب، بل هو مشروع فكرى متكامل وأحد أبرز مفكري العرب في القرن العشرين.. كان يتنقل ببراعة بين قضايا الفكر والسياسة ويختار أصعب التحديات رفضاً وجسارة ويقف بصلابة أمام الواقع المشبوه، رافضا رغم كل الصعاب والتحديات، وكان واحداً من أبرز الكتّاب في مقاومة الغزو الصهيوني، وسافر في أعماق جذور الدولة الصهيونية، وبيّن شارحاً الفرق بين الصهيونية واليهودية، وتنقل بين صفحات التاريخ القديم والمعاصر لكي يصل في موسوعته الشهيرة إلى حقيقة الكيان الصهيوني تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، ويصل إلى أن إسرائيل مشروع صهيوني إلى زوال، وتميز بقدرته الفائقة على تفكيك الظواهر الغربية الحديثة كالصهيونية والعلمانية وإعادة تركيبها بمنهج تحليلي فريد ينفذ إلى الجذور الفلسفية والمعرفية.
لم يكن فكر الدكتور المسيري وليد لحظة، بل كان نتاج “رحلة في الزمان والمكان” كما هو عنوان سيرته الذاتية، انتقل في رحلته الفكرية من الماركسية المادية إلى ما سماه “الإنسانية الإسلامية”، مدافعاً عن الإنسان كقيمة مركبة تتجاوز المادة وواقفاً ضد ما يسمى “تحويل الإنسان إلى شيء”، تأثر بالفكر اليساري، مما أكسبه أدوات تحليلية قوية في فهم الاقتصاد والصراع الطبقي، ثم الصدمة الحضارية في أمريكا أثناء بعثته للدكتوراه، حيث لاحظ التفكك الأسري وسيطرة “النموذج المادي”، كما كانت نكسة 1967م دافعاً له لإعادة قراءة المشروع الصهيوني بعمق بوصفه مشروعاً استيطانياً إحلالياً مرتبطاً بالإمبريالية الغربية.. ثم جاء التحول نحو الإيمان لينتقل تدريجياً من “المادية” التي ترى الكون مادة صماء إلى رؤية تؤمن بأن الإنسان يحمل نفحة “إلهية” تجعله يتجاوز المادة، وهو ما قاده إلى “الإسلام الحضاري”.
عمل الدكتور المسيري في عدة مواقع مرموقة أثرت في تجربته ومنحته احتكاكا عالمياً، فقد عمل في جامعة عين شمس في مصر أستاذاً للأدب الإنجليزي والمقارن وهي وظيفته الأساسية كما عمل في الأمم المتحدة في نيويورك مستشاراً ثقافياً للوفد الدائم لجامعة الدول العربية، وعمل أيضا في جامعة الملك سعود في السعودية أستاذاً لفترة، كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة الكويت، ثم عمل في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا أستاذاً ومحاضراً، وكان المسيري مستشاراً لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام حيث أشرف على العديد من الأبحاث المتعلقة بالصهيونية.
لقد ترك الدكتور المسيري مكتبة ضخمة، حيث تقدر مؤلفاته بـ أكثر من 50 كتاباً بالعربية والإنجليزية، بخلاف عشرات الدراسات والمقالات، ومن كتبه “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر”، و”العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” الذي يميز فيه بين فصل الدين عن الدولة وبين فصل القيم الإنسانية عن الحياة، وله كذلك كتاب “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان” وكتاب “الصهيونية والحضارة الغربية” الذى يربط فيه بين نشأة الصهيونية والتوسع الاستعماري الغربي.
لم يتردد في أن يعارض بشدة قضية السلام مع إسرائيل واتفاقية كامب ديفيد، وأن يقدم كل الشواهد لكشف حقيقة هذا الكيان المغتصب.. وعلى الجانب الآخر لم ينس المسيري قضايا المجتمع الذي تنتمى إليه مصر الكنانة، فاختار جانب المعارضة أمام الواقع المصرى وما يعانيه المصريون من الفقر والتخلف فأنشأ مع عدد من الكتاب والمفكرين جماعة «كفاية»، مطالبين بحياة سياسية حرة.. أصبح المسيري رئيسا للحركة التي استطاعت أن تجمع حولها نخبة من المثقفين والمفكرين والكتاب ودخلت في صدام مباشر مع السلطة.
ورغم سنوات العمر لم يتردد المسيري في اتخاذ موقف المعارضة والمطالبة بحصول المصريين على حريتهم وحقهم في حياة كريمة.. ولم يتراجع د. المسيري عن موقفه، وقاد مظاهرة مع زوجته في أحد الأحياء الشعبية، وتم إلقاء القبض عليه وبرفقته زوجته، فكان موقفاً صعباً على الدكتور المسيري، فقد وجد نفسه وزوجته في مكان موحش، وزاد من صعوبة الموقف أن الرجل كان يعاني ظروفاً صحية قاسية ومر الوقت ثقيلاً وكانت ليلة حزينة أمام سلطة لم تعرف قدر الرجل ومكانته..
خرج الدكتور عبد الوهاب المسيري من محنته حزيناً، وقد زادت عليه محنة المرض، وإن بقي على موقفه في رفض واستنكار ما حدث له ورفاقه في الحركة.. واشتد المرض عليه وإن بقي صامداً أمام الإصرار على مطاردته وزوجته ورفاقه في الحركة، ويبدو أن الجسد لم يتحمل مواقف الرجل، فرحل في منتصف 2008م، تاركاً خلفه رصيداً من الدراسات والمواقف التي تشهد بأنه كان مفكراً ومناضلاً أخلص لقضايا وطنه وأمته.
