ملúمحú في التأمل الإيحائي لآيات الغيب والشهادة: الحجة والإقناع

قبل الدخول في تناول بعض الآيات المشاهدة في ميدان الحياة نلتفت إلى جزئية أسلوبية من أساليب منهج القرآن الإقناعي, كملمح إحائي من ملامح التأمل في آيات الغيب والشهادة وفنية أسلوبية في الإعجاز والإقناع والدلالة.
هناك آيات تتحدث عما نشاهده ونلمسه ونحس به في حياتنا الدنيا , من آيات الكون والإنسان و الحياة , ثم تعقبها أو تسبقها آيات تحدثنا بما هو غائبَ عنا لما كان وما هو كائن وما سيكون , في نفس المقطع بصورة تسلسلية بديعة, فتكون آيات الشهادة دليلاٍ قويا, على آيات الغيب, وذلك أدعى للإيمان واليقين والتصديق الكامل بآيات الغيب , فلا مجال لضعف اليقين بآيات الغيب بعد آيات الشهادة التي يعرضها القرآن ويشاهدها الإنسان في الواقع فهي أمامه حية , لنتأمل ذلك في الآيات التالية نموذجاٍ.
قال تعالى في سورة الحج: (يا أِيْهِا النِاسْ إنú كْنúتْمú في رِيúبُ منú الúبِعúث فِإنِا خِلِقúنِاكْمú منú تْرِابُ ثْمِ منú نْطúفِةُ ثْمِ منú عِلِقِةُ ثْمِ منú مْضúغِةُ مْخِلِقِةُ وِغِيúر مْخِلِقِةُ لنْبِينِ لِكْمú وِنْقرْ في الأِرúحِام مِا نِشِاءْ إلِى أِجِلُ مْسِمٍى ثْمِ نْخúرجْكْمú طفúلاٍ ثْمِ لتِبúلْغْوا أِشْدِكْمú وِمنúكْمú مِنú يْتِوِفِى وِمنúكْمú مِنú يْرِدْ إلِى أِرúذِل الúعْمْر لكِيúلا يِعúلِمِ منú بِعúد علúمُ شِيúئاٍ وِتِرِى الأِرúضِ هِامدِةٍ فِإذِا أِنزِلúنِا عِلِيúهِا الúمِاءِ اهúتِزِتú وِرِبِتú وِأِنúبِتِتú منú كْل زِوúجُ بِهيجُ (5) ذِلكِ بأِنِ اللِهِ هْوِ الúحِقْ وِأِنِهْ يْحúي الúمِوúتِى وِأِنِهْ عِلِى كْل شِيúءُ قِديرَ (6) وِأِنِ السِاعِةِ آتيِةَ لا رِيúبِ فيهِا وِأِنِ اللِهِ يِبúعِثْ مِنú في الúقْبْور )(7).
إن الآيات أعلاه تتحدث عن خلق الإنسان وتخليقه في بطن أمه وهذا يعد من الأمور الغيبية غير المشاهدة التي تدمج فيها آيات المشاهدة حتى يصبح الغيب مشاهداٍ ولأن الغيب هنا سابق فأصبح الغيب مشاهداٍ كما في قوله تعالى: “فِإنِا خِلِقúنِاكْمú منú تْرِابُ”: فالخلق من التراب غيب, لا يعلم كيفيته ولم يشاهدها أحد من الناس, فهو غيب سابق , لكن خلق الإنسان مشاهد لا يجحدهْ أحد, ومن هنا لا يوجد مجال لإنكار السابق مع وجود المشاهد , , فالنطفة مشاهدة والمضغة غيب, هذا حين تدل الآية المادية السابقة التي يشاهدها الإنسان ويلمسها على مادة غيبية لاحقة لا يشاهدها ولا يلمسها مثل المضغة والعلقة التي ذكرناها.
أما كيف تدل الآية اللاحقة على ما قبلها فهو كما يدل الحمل ثم الإنجاب على المضغة والعلقة فالحمل والولادة مشاهدان والمضغة والعلقة غير مشاهدتين فهنا دلت اللاحقة على ما قبلها فالمضغة والعلقة يقعان بين آية مشاهدة سابقة وآية مشاهدة لاحقة ليصبح الغيب مثل الشهادة لقوة الدلالة , فآيات تخليق الإنسان تعد كلها من الآيات المشاهدة التي أصبحت حقائق مسلمة عند المؤمن والكافر خصوصا أمام ثورة المعرفة , التي كشفت ذلك وأثبتته وأصبح عيانا , وحتى لو لم يثبتها العلم لكان عيانا لما ذكرناه !! لأن النتائج المشاهدة تجعل الغيب حقيقة مشاهدة ولذلك دلل القرآن بالمشاهد من الآيات على الغيب الذي لم يأت كالبعث والنشور والحساب وغيره , ليصبح الإيمان في قلب العبد قويا سواء بين ما هو غيب وما هو مشاهد , وهذا هو ما استحق به أن يوصف بصفة الإيمان تمييزا له عن غيره.
قال تعالى : (يا أِيْهِا النِاسْ إنú كْنúتْمú في رِيúبُ منú الúبِعúث فِإنِا خِلِقúنِاكْمú منú تْرِابُ ثْمِ منú نْطúفِةُ ثْمِ منú عِلِقِةُ ثْمِ منú مْضúغِةُ مْخِلِقِةُ وِغِيúر مْخِلِقِةُ لنْبِينِ لِكْمú وِنْقرْ في الأِرúحِام مِا نِشِاءْ إلِى أِجِلُ مْسِمٍى ) .
الكل يدرك أنه خلق من النطفة ولا أحد ينكر هذه الحقيقة البار والفاجر على السواء يلمسون ذلك لأنها محسوسة في الواقع… ثم يستمر السياق ليتحدث عما نشاهده أيضا في الواقع كقوله تعالى ( ثْمِ نْخúرجْكْمú طفúلاٍ ثْمِ لتِبúلْغْوا أِشْدِكْمú وِمنúكْمú مِنú يْتِوِفِى وِمنúكْمú مِنú يْرِدْ إلِى أِرúذِل الúعْمْر لكِيúلا يِعúلِمِ منú بِعúد علúمُ شِيúئاٍ) كلنا يشاهد خروج الطفل وبلوغه أشد الشباب وما بعده , ثم الكهولة , إنها حقائق لا ينكرها أحد فهي أمام أعيننا , لا مجال فيها للإنكار ولا الشك لكننا لا نشاهد ما بعدها من آيات البعث , فالآيات المشاهدة تجعلنا نؤمن بالآيات الغيبية , ثم يستمر السياق ليخبرنا عن مشهد آخر يتعلق بالحياة ومنها الأرض وذلك لوجود العلاقة بين الإنسان والحياة واشتراك التراب بينهما في الولادة والبعث قال تعالى (وِتِرِى الأِرúضِ هِامدِةٍ فِإذِا أِنزِلúنِا عِلِيúهِا الúمِاءِ اهúتِزِتú وِرِبِتú وِأِنúبِتِتú منú كْل زِوúجُ بِهيجُ) استعرض المقطع الآيات المشاهدة لتكون دليلاٍ على آيات الغيب التي أتت بعدها على الفور, قال تعالى: “ذِلكِ بأِنِ اللِهِ هْوِ الúحِقْ وِأِنِهْ يْحúيي الúمِوúتِى وِأِنِهْ عِلِى كْل شِيúءُ قِديرَ (6) وِأِنِ السِاعِةِ آتيِةَ لا رِيúبِ فيهِا وِأِنِ اللِهِ يِبúعِثْ مِنú في الúقْبْور “(7) إنها تتحدث عن أمور غيبية لا تشاهد , تتحول تلقائيا لكل ذي لب إلى آيات كأنها مشاهدة ترى رأي العين, تثبت بأن الله حق, وأنه يحيي الموتى, وأنه قادر قدرة مطلقة على كل شيء , وأن الساعة آتية لا ريب فيها , وأنه يبعث من في القبور , وكلها آيات غيب لا نشاهدها لكن الذي أوجد الإنسان بذلك التسلسل المعقد من العدم قادر على إعادته , فالإعادة أيسر في تصور الإنسان من الابتداء , لكنها أمام قدرة الله سواء لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء , فكل شيء عليه هين وهو عليه يسير ولأهمية الإيمان بالغيب نتابع.
الإيمان بالغيب هو المرتكز الحقيقي للتفريق بين المؤمن وسواه
إن الله يبتلي المؤمنين , ويقيم الحجة على المنكرين والمعرضين عن تأمل هذه الآيات واستشعار ذلك خصوصا بعد الدلالات والحجج القوية المشاهدة التي ذكرتها الآيات السابقة , وقد ركزت الآية الأخيرة على البعث لأهميته حيث تكرر ذكره فيها مرتين في إحياء الموتى , وبعث من في القبور , لأنها القضية التي يريد السياق إثباتها, فالمؤمن الموقن لا يفرق بين المشاهد والغيب في إيمانه وتصوره , لذلك أثنى الله على المؤمنين لأنهم يؤمنون بالغيب وجعلها مرتكزاٍ من مرتكزات الإيمان قال تعالى: (الم (1) ذِلكِ الúكتِابْ لا رِيúبِ فيه هْدٍى للúمْتِقينِ (2) الِذينِ يْؤúمنْونِ بالúغِيúب وِيْقيمْونِ الصِلاة وِممِا رِزِقúنِاهْمú يْنفقْونِ (3) وِالِذينِ يْؤúمنْونِ بمِا أْنúزلِ إلِيúكِ وِمِا أْنúزلِ منú قِبúلكِ وِبالآخرِة هْمú يْوقنْونِ (4) أْوúلِئكِ عِلِى هْدٍى منú رِبهمú وِأْوúلِئكِ هْمú الúمْفúلحْونِ (5)البقرة .
هذه الصفات هي أبرز البراهين على إيمان المؤمنين بل لا يستحقون أن يسموا مؤمنين إلا بها , ومع ذلك أنكر الكفار البعث رغم أن البلاغة القرآنية وقوة الإقناع لا تدع مجالا لمنكر, ولا لشاك ولكن من الناس من لا ينفعه شيء , قال الله عن الكفار المنكرين : (إنِ الِذينِ كِفِرْوا سِوِاءَ عِلِيúهمú ءأِنذِرúتِهْمú أِمú لِمú تْنذرúهْمú لا يْؤúمنْونِ (6) خِتِمِ اللِهْ عِلِى قْلْوبهمú وِعِلِى سِمúعهمú وِعِلِى أِبúصِارهمú غشِاوِةَ وِلِهْمú عِذِابَ عِظيمَ (7)
“قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض مــــــــن أرداك ¿
قل للمريض نجا وعْوفيِ بعد ما عجزت فنون الطب من عافاك¿”
قـــل للذي عميت عيونه أن ترى نور الإله من الذي أعماك
واسأله كيف غويت والنور المبين أمام عينك ما الذي أغواك
وسل الذي ختم الإله بقلبه من يا غرير عن الهـــــــــدى واراك
الكـــــل مفتقــر إليه ومرتج
منـــه المفاوز والنجاة هنـــاك

قد يعجبك ايضا