هل تنهار القوة الأمريكية بسبب الدَّيْنْ والعجز؟

محمد عبدالمؤمن الشامي

 

 

حذّرت كريستالينا جورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، من مؤشرات تراجع الاقتصاد الأمريكي. وفي كلمة ألقتها خلال فعالية استضافها معهد ميلكن الأمريكي، شددت جورجيفا على ضرورة أن تعتمد البلدان في كل مكان على مرونة القطاع الخاص، والبيانات الحكومية الدقيقة، والمؤسسات القوية لضمان تكافؤ الفرص وحماية اقتصاداتها من الصدمات المحتملة.
لكن الواقع الأمريكي أعمق من مجرد أرقام وعجز مالي. الاقتصاد الذي لطالما كان عمود القوة العالمية بدأ يتصدع تحت وطأة الدين العام القياسي والعجز المتزايد عامًا بعد عام. الإنفاق الضخم على البرامج الحكومية والنفقات العسكرية والسياسات الخارجية المكلفة يزيد من هشاشة الاقتصاد ويقلص قدرته على التعافي. العجز المتراكم والدين المتصاعد يضعان الولايات المتحدة أمام مفترق خطير، حيث تصبح كل خطوة مالية مستقبلية محفوفة بالمخاطر، ويزداد احتمال مواجهة صدمات اقتصادية غير مسبوقة.
ومع تواصل الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة منذ أول أكتوبر/تشرين الأول الجاري بسبب استمرار الخلافات في الكونغرس بين الديمقراطيين والجمهوريين حول بعض بنود الموازنة السنوية، يتكبد الاقتصاد الأمريكي خسائر تقدر أسبوعيًا بمليارات الدولارات وتلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي برمته. وتشير مذكرة صادرة عن مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض إلى أن الولايات المتحدة قد تخسر أسبوعيًا حوالي 15 مليار دولار من ناتجها المحلي الإجمالي مع استمرار الإغلاق الحكومي، ما يزيد من هشاشة الاقتصاد ويضاعف الضغوط على الميزانية الفيدرالية.
واشنطن لم تكتفِ باستنزاف مواردها الداخلية، بل حمّلت اقتصادها أعباء خارجية ضخمة. التدخل المستمر في الشرق الأوسط، والدعم المالي والسياسي للكيان الإسرائيلي المتهالك، كلف الاقتصاد مليارات الدولارات دون أي عائد حقيقي، وزاد من العجز وأضعف القدرة على توجيه الموارد نحو مشاريع تنموية داخلية. هذه السياسات الخارجية المكلفة لم تعزز مكانة الولايات المتحدة على المدى الطويل، بل أثقلت كاهل ميزانيتها وقلصت فرصها في تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
السياسات الاقتصادية التي انتهجها ترامب تجاه الدول العربية كشفت حجم الاستنزاف المباشر للثروات العربية. الأموال والاستثمارات العربية تُحوّل لصالح الاقتصاد الأمريكي واللوبيات الصهيونية، بينما تُهمل تنمية اقتصادات الدول العربية نفسها. خفض الضرائب غير المتوازن، رفع الرسوم الجمركية على عدة دول، والإهمال في ضبط الإنفاق العسكري كلها سياسات زادت المخاطر المالية وعمّقت التصدع الداخلي. الأموال العربية التي كان من الممكن أن تُستثمر في مشاريع وطنية صناعية وزراعية وبنية تحتية، أصبحت أدوات لدعم مشاريع أمريكية خارجية، بما فيها دعم الصهيوني الإسرائيلي في الأرض المحتلة، على حساب المستقبل الاقتصادي العربي.
التحديات الأمريكية لا تتوقف عند حدود الاقتصاد الداخلي، بل تتسع لتشمل عزلة دولية متزايدة. التوترات مع روسيا والصين، العقوبات والقيود التجارية، وارتفاع تكاليف التجارة تجعل الولايات المتحدة أكثر هشاشة، في وقت تتوسع فيه روسيا والصين اقتصاديًا وتزداد قدرتهما على التأثير في الأسواق العالمية. بالتالي، تتراجع القدرة الأمريكية على المنافسة في قطاعات استراتيجية مثل التكنولوجيا والطاقة والزراعة، وتزداد تكلفة التعامل مع الاقتصاد الأمريكي، في حين تتقلص فرص الدول في التبادل التجاري أو الشراكة الفعالة.
الدرس واضح ومقلق: تحذيرات جورجيفا ليست مجرد بيانات، بل انعكاس مباشر لهشاشة قوة كانت تُعتبر مطلقة. استمرار العجز، الإنفاق المفرط، السياسات الخارجية المكلفة، وعزلة دولية متصاعدة، تمثل وصفة لأزمة اقتصادية شاملة تهدد مكانة الولايات المتحدة ودورها القيادي عالميًا. الاقتصاد الأمريكي اليوم أمام تحدٍ مركب: عجز داخلي متزايد، دين عام ضخم، سياسات خارجية مكلفة، وإغلاق حكومي متواصل، وكل ذلك يضع البلاد أمام خطر التراجع أو الانهيار الجزئي في المستقبل القريب.
أما بالنسبة للعالم العربي، فالمعنى أكثر وضوحًا وقسوة: الاعتماد على أمريكا والرهان على دعم خارجي لم يعد خيارًا استراتيجيًا، بل أصبح كارثة مالية واستنزافًا للثروات العربية. الأموال والاستثمارات التي تُحوّل إلى واشنطن وعقود ترامب واللوبيات الصهيونية تُسخّر لصالح اقتصاد هش، على حساب مصالح العرب ومستقبل أجيالهم. هذا الاستنزاف يتجاوز مجرد خسارة مالية، ليصبح عاملًا يعرقل التنمية المستدامة ويضعف القدرة على بناء اقتصاد عربي مستقل قادر على مواجهة الأزمات العالمية.
الحل الوحيد والضروري هو توجيه الموارد والاستثمارات داخل الدول العربية نفسها، لتعزيز الاقتصاد الوطني، وتمكين أبناء الوطن، وبناء مؤسسات قوية قادرة على الصمود أمام أي أزمة عالمية. الاعتماد على الذات، وتنمية المشاريع المحلية، والاستثمار في الإنسان العربي ليست خيارات، بل ضرورة حتمية لحماية الثروات العربية وضمان استقلال مالي واستقرار اقتصادي حقيقي. التركيز على الصناعة المحلية، الزراعة، البنية التحتية، والتعليم والتدريب المهني، هو الطريق لضمان مستقبل مستقر وقوي للأجيال القادمة، ويحوّل الدول العربية من مستهلكة للموارد الأجنبية إلى فاعلة في الأسواق العالمية بقوة اقتصادية حقيقية.

قد يعجبك ايضا