ثورة 21سبتمبر.. قصيدة الحرية ومرثية الطغاة

محمد الشرفي

 

اليمن انفجر في 21 سبتمبر 2014م كبركانٍ في وجه التاريخ. لم يكن حدثًا عابرًا، بل تحرر من الارتهان للخارج فجأة، بلد محاصر، فقير، يتصدّى لأعتى تحالف دولي ويهزمه بالصمود والإيمان. هنا السيادة تُفرض بالدم، والحرية تُنتزع من حناجر الطغاة، والكرامة تُسكب على تراب الوطن. صنعاء لم ترفع راية الاستقلال فقط، بل غرستها في قلب الأمة لتقول: من هنا يبدأ زمنٌ جديد، زمنٌ لا تحميه العروش بل الشعوب.

يجب أن يفهم العالم أن الحادي والعشرين من سبتمبر كتب بالدم والمعاناة، ولم تكن ثورةً فحسب، بل كانت انفجارًا في صمت التاريخ، وولادةً لمعنى جديد للسيادة والحرية والكرامة. يومها لم يعد اليمن بلدًا مرتهنًا لهيمنة الخارج، بل صار هو الخارج والداخل معًا، صار نصًّا مفتوحًا للكرامة يُقرأ في فلسطين كما يُقرأ في صنعاء، وصار صدىً يهز العواصم العربية التي بدا حكامها صغارًا أمام صلابة ثورة 21سبتمبر.

لقد كانت تلك اللحظة ميلاد استقلالٍ حقيقي لا يُباع في أسواق السياسة ولا يُشترى بأموال المانحين، استقلالًا كُتب بالإيمان، ورُسخ بالصمود، وتوّج بالدم، دم الشهداء من الشعب والقادة على السواء… دمٌ أعلن للعالم أن هذا درب العظماء.

لا يمكن أن نفصل إنجازات ثورة 21 سبتمبر عن ما تبعها من انتصارات سياسية وعسكرية وأخلاقية، لأنها في حقيقتها لم تكن نقطة بداية وانتهت، بل كانت أصلًا يتفرع عنه كل ما تلاها من مواقف وصمود. لقد كسرت الثورة مفهوم البلد الضعيف المرتهن للقوي، وخلقت بديله: بلد واثق، صامد، لا يتكئ إلا على عزيمة أبنائه. كسرت مفهوم الهيمنة الخارجية التي كانت تُسوّق كقدر مقدس، وابتكرت معجمًا جديدًا: السيادة تُفرض فرضًا، الكرامة تُنتزع انتزاعًا، الحرية تُسحب سحبًا من أعناق المتسلطين.

سقطت أيضًا أوهام القوة العسكرية التقليدية. لم يعد الانتصار مرادفًا للمال والسلاح المتطور، بل صار مقترنًا بالإيمان والولاء للشعب. لقد صار اليمن برهانًا صارخًا أن الحرب لا يربحها الأغنى، بل من يملك قلبًا مؤمنًا وعقيدة راسخة وصبرًا طويلًا.

ورغم الحصار ولدت معامل التصنيع العسكري، ومن وسط مآسي الجوع خرجت المسيرات والصواريخ، لتثبت أن جيشًا محاصرًا قادر على أن يبدع أكثر من جيوش غنية متخمة.

أما أثر 21سبتمبر على النطاق العربي، فهو الأوسع والأبلغ. غزة أخت صنعاء، التي وجدت في اليمن سندًا لا يكلّ ولا يساوم. ثم الشعوب العربية التي رأت في صنعاء مرآةً تُعرّي ضعف حكامها. لم يعد المواطن العربي يحتاج إلى كثير مقارنة ليدرك الفرق بين صلابة موقف اليمن وخنوع أنظمته، بين قادة يقدّمون أنفسهم شهداء وقادة يقدّمون أنفسهم حراسًا لمصالح الأمريكي والإسرائيلي.

ومن يعزفون على وتر الاقتصاد صُدموا بالحقيقة: أن اليمن الفقير المحاصر يواجه العالم بأسره، فيما الدول الغنية تجثو أمام ابتسامة موظف غربي في قاعة بروكسل أو واشنطن.

أما قيادتنا الحكيمة، فقد قدّمت درسًا آخر: السلطة التي لا تفصل نفسها عن دم الشعب، بل تسير في صفه، وتقدّم وزراءها ورئيس وزرائها شهداء على درب الحرية. هنا يكتمل المشهد: ثورة ليست سلطة، بل دم؛ ليست شعارًا، بل فعلًا؛ ليست محطة، بل مسارًا.

واليوم، ونحن نقرأ هذه الثورة بعد أكثر من عقد، ندرك أن 21 سبتمبر لم يكن فصلًا يمنيًا عابرًا، بل كان افتتاحية جديدة لوعي الأمة كلها. لقد أجبر العالم على إعادة حساباته: لم يعد المال ولا السلاح معيار القوة، بل الإرادة التي تتفجر من أعماق شعب قرر أن يعيش بكرامة أو يموت دونها. إنها لحظة تقول للأمة العربية: الاستقلال ليس حلمًا بعيدًا، بل خيارًا حاضرًا إذا امتلكتم شجاعة الصمود.

وسيظل 21 سبتمبر علامة فارقة، ليس فقط في تاريخ اليمن، بل في تاريخ العرب أجمعين. علامة تفضح بؤس الأنظمة التي ارتضت أن تكون توابع، وتُعلن بفخر أن اليمن صار هو الأصل، والآخرون هم الهوامش. في زمنٍ تُشترى فيه الكرامة بصفقات النفط، وتُباع فيه الحرية في بورصات المال، يخرج اليمن ليضحك ساخرًا، وهو يرفع صوته عاليًا: نحن هنا، نصنع المعجزات من تحت الركام، ونواجه العالم وسط صمت العرب، ونقدّم قيادتنا شهداء في مسار لا يسلكه إلا العظماء.

وهكذا، فإن ثورة 21 سبتمبر ليست فقط نصًا في سجل اليمن، بل نصًا مفتوحًا يكتبه كل عربي مكلوم يبحث عن سيادة ضائعة وكرامة مهدورة. وسيكتشف التاريخ ـ بعد حين ـ أن هذه الثورة لم تكن مجرد حدث، بل كانت بداية زمن جديد، زمن اليمن الذي علّمنا جميعًا أن الحرية تُنتزع انتزاعًا، وأن السيادة لا تُمنح بل تُفرض فرضًا، وأن الدم وحده يخط على جبين العالم عنوان الكرامة.

وهكذا… سيبقى الحادي والعشرون من سبتمبر عاصفةً لا تهدأ في ذاكرة الأمة. لم يكن يومًا عابرًا في دفتر الأيام، بل صرخة وجودية ولحظة أعلنت أن السيادة لا تُمنح من طاولات الغرباء، بل تُنتزع بدماء الأحرار. أن الحرية لا تُستجدى من أبواب السفارات، بل تُفرض كما يفرض البرق نوره على العتمة. الكرامة ليست شعارًا يُرفع في المؤتمرات والقمم، بل دمٌ يُسكب على تراب الوطن حتى يصير وسامًا للأجيال.

سيظل 21 سبتمبر زلزالا، وجرسًا يدقّ في ضمير العرب جميعًا: هنا اليمن… هنا الصمود، هنا الدرس، هنا درب العظماء الذي لا يسلكه إلا من آمن أن الكرامة قدر، وأن الحرية مصير وقرار لا يُشترى ولا يُباع

قد يعجبك ايضا