التجريب السردي في ” فات مان ” للقاص هايل المذابي


صفوان الشويطر –
السرد معمار و عند تشييد الكاتب للنص السردي قد يعني له وضع شكل جديد و لافت ,لذا يسعى جاهدا كلما واتته الفرصة تجريب تقنيات وأساليب غير متبعة في التقاليد الفنية والشكلية للجنس الأدبي الذي يكتب فيه , فالتجريب هو تجديد في الأدوات والعناصر الجمالية بهدف توسيع أفق التلقي والطموح لتحطيم القوالب المتعارف عليها وإسقاط جميع الثنائيات الفاعلة داخل بنية النص الداخلية وخصائصه الخارجية المميزة له داخل نطاق الشيفرة اللغوية الجمالية .” فات مان ” نموذج مناسب لمقاربة سمات التجريب المتعددة المستويات في النص السردي ,حيث سنجد التجريب البنيوي ,التجريب المضموني والتجريب الأسلوبي .
” فات مان ” نص جريء وصاخب , ينطلق من نزوعه المباشر والصريح صوب التجريب و المغايرة سواء اعبر التوظيف الجديد لأدوات قديمة أو التحايل الماهر في إضفاء حيوية متدفقة للسرد . ” فات مان ” قصة تقع في 100 صفحة تقريبا وتتكون من 15 فصلا (سماها الكاتب حلقات ) تسبقها مقدمة تعريفية بالشخصية الرئيسية / البطل ” فات مان “.
كما يبدو من المقدمة و الفصل الأول يفصح النص عن الإطار العام للقصة ( قبل كل ذلك يوحي الغلاف الخارجي للكتاب بالكثير , حيث توجد شخصية رئيسية هي ” فات مان / البطل وشخصية نقيضه تتمثل في ” الصوت / الشرير ” وهناك صراع بين الخير والشر (تعبر المقدمة عن ذلك بشكل صريح ), وهذا النسق هو بطبيعة الحال أطار تقليدي للقصة أو الحكاية كنوع سردي بشكل عام , فالصراع حبكة تقليدية مألوفة تحضر داخل هذا النص لكن مع فارق أن الكيفية التي سيمضي فيها الصراع هي المحك داخل سياق القصة ولا تتكشف هذه الكيفية ألا مع الخوض في غمار الإحداث . البداية , أذن , تضع اتفاقا ضمنيا بين الكاتب والقارئ حول النص مع احتفاظ السارد بمفاجآت منتظرة كما يوحي بذلك الفصل الأول .هذه المقدمة التعريفية في بداية العمل بشخصية ” فات مان ” إلى جانب الفصل الأول الكاشف عن وجود صراع بين ” فات مان ” و ” الصوت ” تضع القارئ أمام نوع سردي أشكالي نقديا يستعيرا لنمط السردي المألوف في روايات الناشئة وقصص الفتيان الحافلة بالمغامرات والتشويق , القصة القريبة من الثقافة الجماهيرية التي تنزع نحو هذه النوعية من السرود كالقصة البوليسية وقصص الرعب وغير ذلك .هذا النوع السردي الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى الإمتاع والترفيه أصبح مجالا للدراسة ضمن النقد الثقافي لكونه منتج خاضع لنمط استهلاك معين ويبحث عن قارئ قريب وسهل لكنه – إي النوع – بقي بعيدا عن النقد الأكاديمي التطبيقي لأنه لا يسعى لإثراء المكونات الداخلية للجنس الادبي بقدر ما يكتفي بإرضاء القراء . لهذا السبب بقيت روايات إحسان عبدالقدوس وألبرتو مورافيا وأجاثا كريستي – على سبيل المثال – محل جدل فكري بين الأكاديميين حول أمكانية إخضاعها للدرس النقدي بل وصلاحيتها كأعمال أدبية مكتملة الأركان , فالهوة بين ما يسمى “الأدب الجماهيري” و”الأدب الرفيع ” لا تزال مثيرة للجدل ونسبية بشكل كبير محكومة باقتصاديات الثقافة و سوق الكتاب و محددات اجتماعية وثقافية عديدة .
رغم ذلك , لم يكتف ” فات مان ” بالتوظيف المكرور لهذا النوع السردي الاستهلاكي , بل استثمره بما يحقق مقروئية عالية للنص من قبل كل الفئات العمرية والشرائح المختلفة للقراء , وفي نفس الوقت يغامر داخل المبنى الحكائي التقليدي ليقدم سردا جديدا لا يخلو من العمق و البساطة . مثلا نجد أن هيمنجواي في ” الشيخ والبحر ” حقق هذه المعادلة الصعبة بين جمالية السرد وبساطته المتاحة للقارئ العادي مما يكرس حقيقة أن الإعمال الأدبية محكومة بسياق ثقافي تصنيفي لا يرتبط بالضرورة بمبيعات الكتاب أو شهرة الكاتب بقدر ما يتصل بأسلوبية الكتابة وهذا ما يحققه “فات مان “
التناص المنسوج بعناية في ” فات مان ” مع قصص المغامرات يوجه القارئ نحو آلية قرائية معينة , سريعة الإيقاع من حيث مسار الحبكة التصاعدي لكن النص أيضا سيستوقف القارئ مرارا بين سطوره من خلال عناصر الفانتازيا والسخرية والتهجين اللغوي باستخدام مفردات وعبارات باللغة الانجليزية بحروف عربية ورومانية .هذا التطعيم للنص بالألفاظ الأجنبية داخل سياق قصة ” فات مان ” يكسر رتابة اللغة وبموضعها في مستوى تعبيري وسيط بين العامية والفصحى , لان اللهجة العامية أو لنقل عامية المثقفين عادة ما تمزج بين لغتين بقصد تداولي تواصلي وهذا التوظيف اللفظي في ” فات مان ” يهدف أيضا إلى تنويع الدوال وتغريبها , فالاستخدام المقصود لكلمات انجليزية والإحالات الدلالية للغة أخرى تبدو محاولة من الكاتب لزعزعة آليات التلقي عند القارئ ولتغيير نهجه القرائي للنص وتحفز القارئ على التوقف والتريث واستيعاب دوال غير متوقعة تنبع من النص وتنفصل عنه , تأتي من داخله وتطل عليه من الخارج ذلك أن توظيف تلك الكلمات صوتيا يأتي في سياق ساخر يحيل إلى ثقافة أخرى ويعزز فكرة أن النص – هنا – منتج هجين من ثقافتين ما يعكس طموح النص في أن يكون عابر لأكثر من ثقافة .ظهور صوت السارد إثناء الحكي كأن يستدرك قائلا ” عفوا ” أو يضع تساؤلات حول ما سيأتي من إحداث وكذا تقسيم الفصول إلى حلقات بما يحيل القارئ إلى مخيال مرئي يدفعه لتخيل القص وفق مشاهد حية درامية وذلك يدفعه تلقائيا للاستحضار من مخزون ذاكرته البصرية ورسم مسرح أحداث القصة داخل فضاء هذه الذاكرة , إضافة إلى أن التنوع بين صوت السارد العليم والسارد المشارك في الأحداث الذي يظهر في مواضع متفرقة داخل سياق الأحداث قائلا : وقبل أن يرتد طرفي .
بين فصول / حلقات القصة ينقلك النص بين حكايات و حبكات كثيرة و متشعبة داخل قالب ساخر بانورامي مسرح الإحداث فيه يشير ضمنيا إلى أكثر من مكان وأكثر من زمان من خلال أحالات ذكية خافتة يشعر معها القارئ أن القصة تدور في أرجاء كثيرة من العالم و زمن متداخل و مفتوح ليقدم صورة غنية للعالم السفلي , عالم الجريمة والدسائس والألعاب القذرة حيث تتصارع العصابات وكارتيلات المافيا ,لنجد ” دون كورليون ” و ” جوكر ” من نوع آخر , عبقرية شريرة لا تملك أمامها غير الإعجاب و الشغف بمتابعة ما تفعل أو تقوله .
نمو الشخصيات وتوتير الصراع بين ” فات مان ” و ” الصوت “يزداد مع تدفق السرد حيث في كل فصل / حلقة تتعقد الحبكة ثم تنفرج لتتصاعد نحو التعقيد مجددا وتعود للانفراج وهكذا ..ورغم ما تقتضيه السرديات المماثلة من السير في مسار زمني خطي من الماضي إلى الحاضر ألا أن الزمن داخل القصة يعود للخلف أحيانا كما في الفصل السابع الذي يرجع إلى نقطة ما من إحداث الفصل الخامس ليس وفق تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك بل العودة إلى حدث ماضي يقصد به هنا تناول حبكة فرعية تزامنت مع احداث سابقة تعمد السارد تجاهلها أو التغاضي عنها وهو منهمك في سرد أحداث رئيسية لكنه يعود لتفسير أحداث صغرى أو حبكات فرعية سرعان ما تعود إلى المجرى الأساسي للحبكة الكبرى وهذا التلاعب بزمن القصة يحقق غايته في خلق حالة من التشويق تدفع القارئ للتساؤل ومحاولة الاجتهاد في إيجاد سبب لهذا الحدث أو ذاك استنادا على معرفته بالحبكة الرئيسية .
” فات مان ” منجز سردي متفرد حقق تجريبا متعدد المستويات بتعدد مستويات النص ,يكتنز بمتعة من النوع السهل الممتنع الذي يجعل القارئ يصر على أكمال القراءة في جلسة واحدة هي في الأساس غير كافية للإحاطة بكل جماليات السرد ودلالاته الخصبة .

قد يعجبك ايضا