الثورة / متابعات
في مشهد مؤلم لا يمكن للعين ولا القلب احتماله، كانت أم محمد النمس تتنقل بين خيام النزوح في مواصي خان يونس، بحثاً عن “كسرة خبز” تسد بها رمق أطفالها الذين لم يتذوقوا طعم الخبز منذ أسبوعين، وكأنها تجوب دروب اليأس نفسها كل صباح، فيما لا تجد في نهاية المطاف إلا المزيد من الانتظار والخذلان.
تقول النمس، وهي أم لخمسة أطفال أكبرهم لم يتجاوز العاشرة من عمره: “أقسم بالله أنني أبقى أحياناً ليومين من دون طعام، حتى أتمكن من إطعام أطفالي وزوجي المصاب، الذي لا يقوى على الحراك بعد إصابته بشظية في ظهره، ولا دواء يخفف عنه، ولا طعام يساعده على الصمود”.
تلك المأساة الشخصية لأم محمد تختصر قصة عشرات آلاف العائلات الفلسطينية التي تعيش في ظروف مأساوية في قطاع غزة، مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي في إغلاق المعابر ومنع إدخال المساعدات الإنسانية منذ أكثر من شهرين، ضارباً بعرض الحائط كل المناشدات والنداءات الدولية التي حذرت من مجاعة وشيكة قد تفتك بالآلاف.
أرقام تثير الهلع
تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى استشهاد 57 طفلاً جراء الجوع وسوء التغذية، وكان آخرهم الطفلة جنان السكافي التي فارقت الحياة أمس، بعدما عجزت أسرتها عن تأمين الحد الأدنى من الحليب أو الغذاء.
وتؤكد المصادر الطبية أن أكثر من 3,500 طفل دون سن الخامسة يواجهون خطر الموت الوشيك بسبب الجوع، فيما يقترب نحو 290 ألف طفل من حافة الهلاك.
وأضافت تلك المصادر: “ما يزيد عن 70 ألف طفل نُقلوا إلى المستشفيات خلال الأشهر الماضية بسبب سوء التغذية الحاد، ومع استمرار منع دخول المساعدات، فإن الكارثة لا تُطل علينا فقط، بل أصبحت تسكن بيننا”.
وجبة واحدة من العدس… أو لا شيء
في مشهد آخر، يقف النازح أبو أيمن (57 عاماً) على إحدى البسطات في سوق خان يونس محاولاً عبثاً العثور على بديل للدقيق الذي أصبح سعره خيالياً، بعد أن تجاوز الكيلو الواحد 60 شيقلاً (نحو 17 دولاراً)، في حين قفز سعر كيلو الأرز إلى 40 شيقلاً، والعدس إلى 30.
قال بصوت متعب: “لم يتبق لي سوى العدس والفاصوليا، أطحنهما لأصنع خبزاً يسد جوع أطفالي، الذين أقنعتهم منذ أسابيع بوجبة واحدة في اليوم… لا خيار لدينا، فإما أن نعيش بجوع… أو نموت بصمت”.
مشاهد من “الجوع القاتل”
المحال التجارية والبسطات خلت من المواد الغذائية الأساسية، ولم يتبق في الأسواق إلا القليل من معلبات البازلاء والفاصولياء، بينما تكايا الطعام تواجه ضغطاً غير مسبوق، فالمسافات طويلة، والطوابير طويلة، والوجبات بالكاد تكفي.
“نقسم المهام أنا وأطفالي كل صباح.. من يجلب الماء، ومن ينتظر في التكية”، تقول أم محمد بنبرة يائسة، “في معظم الأيام لا نحصل على شيء، فقط نعود بعيون خائبة وقلوب مثقلة بالجوع والخذلان”.
النداء الأخير للعالم
وسط هذه المعاناة، يوجه النازحون نداءً إنسانياً بحتاً إلى المجتمع الدولي، وإلى منظمات الإغاثة وحقوق الإنسان، وإلى الصليب الأحمر: “أنقذونا قبل أن نموت جوعاً، افتحوا المعابر، أوقفوا الحصار.. فالموت صار يختار بين من تُنهيه الصواريخ ومن يختنق جوعاً”.
ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة غذائية، بل مجزرة إنسانية تتكشف ملامحها أمام العالم، كل يوم، وكل ساعة. وإن بقي الصمت الدولي مستمراً، فإن المزيد من الأطفال، مثل جنان، سيُكتب اسمهم في قائمة طويلة من الضحايا.. لا بسبب الحرب وحدها، بل لأنهم حُرموا من حقهم في الحياة.