في غضون أيام قليلة تصاعد التوتر بين الهند وباكستان على نحو غير مسبوق، بعد حوادث حدودية تبادل فيها الجانبان الاتهامات وتحولت إلى أزمة كبيرة قُطعت فيها العلاقات التجارية والدبلوماسية وشهدت تحشيدات عسكرية خصوصا بعد نيودلهي تعليق اتفاقية نهر السند في الخطوة التي أعلنت باكستان أنها تعني إعلان حرب ما أشاع مخاوف دولية من مخاطر الانزلاق إلى حرب شاملة بين بلدين يتمترسان خلف أسحلة نووية.
تحليل / أبو بكر عبدالله
المخاوف من اندلاع حرب شاملة بين الهند وباكستان تجاوزت جغرافيا القارة الهندية إلى العالم نظرا لحساسية التوتر بين بلدين جارين يتنازعان السيادة على مناطق حدودية ويتملكان الأسلحة النووية، والصواريخ بعيدة المدى وأكثر من ذلك التركة الهائلة من الأحقاد والخلافات التي أشعلت مخاوف عالمية من سيناريوهات كارثية قد تعم المنطقة والعالم في غياب مبدأ الحياد.
حدة التوتر بين الهند وباكستان تصاعدت على نحو غير مسبوق بعد كشف وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف عن استعدادات هندية للحرب وتأكيده أن باكستان في حالة تأهب قصوى، في مقابل تأهب واسع النطاق من جانب الهند التي كشفت عن تقارير استخباراتية تشير إلى أن باكستان أكملت الاستعدادات لحرب محدودة على الشريط الحدودي.
ورغم أن هذه التهديدات لم تكن جديدة على مسرح الأزمات التاريخية بين البلدين إلا أن إعلان وزير الموارد المائية الهندي اتخاذ بلاده إجراءات لمنع وصول مياه نهر السند إلى باكستان كان محفزا لتداعيات أكثر خطورة من جانب باكستان التي اعتبرت ذلك إعلان حرب من جانب الهند.
هذه التداعيات جاءت بعيد توترات متسارعة شهدتها منطقة الحدود الهندية الباكستانية وتحديدا في منطقة كشمير التي يتقاسم البلدان السيادة عليها، ولا سيما بعد تعرض قافلة سياح هنود لهجوم مسلح أسفر عن مقتل 26 شخصا.
ورغم أن باكستان شهدت حادثا مماثلا بمقتل 10 جنود باكستانيين في كمين نصبه مسلحون مجهولون لقافلتهم العسكرية في منطقة بلوشستان الباكستانية، إلا أن التوتر بين البلدين على خلفية الحادث الأول استمر بوتيرة عالية، بعد شروع البلدين بإجراءات عقابية متبادلة شملت إغلاق المعابر الحدودية ووقف الحركة التجارية وتعليق معاهدة نهر السند الموقعة بين البلدين عام 1960، وسحب البعثات الدبلوماسية وإغلاق المجال الجوي للبلدين فضلا عن نشرهما تعزيزات عسكرية كبيرة على طول الحدود.
لم يمض الكثير من الوقت حتى خلص قادة البلدين إلى إطلاق تهديدات صريحة، بالرد الحاسم والشامل، فيما اعتبرت باكستان أي تحرك هندي بشأن مياه نهر السند “عملاً حربياً” بالتوازي مع نشرهما وحدات عسكرية على طول خط الحدود ووضع قواتهما في حالة تأهب كامل.
الإجراءات التي عادة ما تسبق الحروب كانت حاضرة بقوة هذه المرة وأعادت إلى الأذهان حدة التوتر التي سادت البلدين في العام 2019 عندما ألغت الهند نظام الحكم الذاتي في كشمير وشنت غارات جوية على معاقل مفترضة لمسلحين في كشمير الباكستانية، في ظل اشتباكات محدودة استمرت بصورة متقطعة على خط المراقبة قبل أن تزداد وتيرتها في مطلع أبريل الماضي، بعد الهجوم الذي استهدف قافلة سياح هنود في كشمير الهندية.
وخلال أيام قليلة شهدت ضفتي الشريط الحدودي تحركات عسكرية مقلقة آخرها نشر باكستان دفاعاتها الجوية وتحريكها قوات الفيلق الثلاثين من منطقة جوجرانوالا الباكستانية نحو الحدود مع الهند، كما وضعت الفرقتان السادسة والعاشرة من قواتها المرابطة بكشمير في حالة تأهب ورفعت جهوزية قواتها الجوية مع أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة وأنظمة الحرب الإلكترونية.
تزامن ذلك مع تحريك الهند 4 فرق عسكرية إضافية نحو الحدود الشمالية والغربية، ووضع قواتها الجوية والبحرية والبرية في حالة تأهب قصوى.
سيناريوهات خطيرة
لا خلاف أن التوترات على خط الحدود الهندية الباكستانية معقدة ومتجددة، ولها جذور تاريخية عميقة، خاصة في نزاع البلدين حول كشمير، غير أن أكثر الدوائر السياسية الدولية تذهب إلى أن النزاع المتجدد حاليا بين البلدين مثل أخطر تصعيد تشهده المنطقة منذ سنوات، ولا سيما بعد قرار الهند تعليق معاهدة مياه السند التي صمدت أمام الحروب والأزمات المشتعلة بين البلدين لأكثر من 60 عاماً.
ذلك أن إلغاء هذه الاتفاقية التي قسمت أنهار السند بين الهند وباكستان، ظل طوال العقود الماضية محظورا من جانب واحد، نظرا لحساسيتها الشديدة من جانب باكستان كونه سيقود إلى حجب مياه الأنهار الغربية للسند التي تعتمد عليها باكستان او تحويلها لجهات أخرى عبر السدود الكهروضوئية التي تتحكم فيها الهند.
ولجوء الهند لهذا الخيار رغم خطورته وحساسيته كشف عن حالة احتقان كبيرة بين البلدين، واستعدادهما للمضي قدما مهما كان الثمن، ما اثار مخاوف عالمية من تدهور جيوسياسي خطير قد يقود إلى حرب شاملة بي البلدين.
وتبدو الأوضاع بين الهند وباكستان قد اتخذت منعطفًا مظلما في ظل تقديرات تتحدث عن ثلاثة سيناريوهات مرشحة للأزمة أولها أن تفلح جهود الوساطة الدولية في ممارسة الضغوط على كلا البلدين، ولا سيما من جانب الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذين طالما لعبوا دورا مهما في تهدئة التوترات بين البلدين خلال العقود الماضية.
والسيناريو الثاني أن تتفهم كل من الهند وباكستان اعتباراتهما الأمنية وأن تعملا على المحافظة على وتيرة التهدئة التي استمرت نحو 60 عاما، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإنهاء مظاهر التصعيد الحدودي وتخفيف وتيرة الحرب الكلامية، مع التزامات مشتركة بعدم مساس أي طرف بالخطوط الحمر للدولة الأخرى، وحل أي نزاع بصورة ودية ودبلوماسية.
السيناريو الثالث هو حصول أخطاء أو أعمال خارجة عن السيطرة في مناطق التوتر الحدودية، كإسقاط طائرات أو حصول اشتباكات على طول خط المراقبة أو سقوط ضحايا مدنيين، وهو امر قد يفاقم الأزمة وقد يؤدي بلا شك إلى مواجهات محدودة يصعب التكهن بإمكانية السيطرة عليها أو الحد من إمكانية توسعها إلى حرب شاملة.
وعلى أن قوات البلدين تبدوان حريصتين على عدم حصول أخطاء تقود إلى تصعيد شامل ولا سيما في المناطق الحدودية بكشمير، إلا أن الوضع العسكري المتأهب للقوات في كلا البلدين يضعهما على حافة هاوية، فشن أي ضربة محدودة يحتمل حصول رد من الطرف الآخر، ما قد يدفع البلدين إلى هاوية صراع سحيقة يصعب التحكم بمساراتها.
والمرجح أنه في حال حصول اختراق بري واسع من جاب أي طرف أو خسارة مواقع عسكرية استراتيجية، قد تلجأ باكستان أو الهند إلى “الردع النووي التكتيكي” وهذا بحد ذاته مؤشر خطير للغاية قد يزيد من مخاطر الاستخدام غير المنضبط لهذا النوع من الأسلحة الفتاكة التي قد تحول شكل العالم بين عشية وضحاها.
عوامل مطمئنة
رغم فداحة السيناريوهات في الحرب الهندية الباكستانية المتوقعة، إلا أن المرجح أن تبقى محصورة في دائرة المواجهات المحدودة، كون ما يجري اليوم لا يختلف عما حدث من توترات سابقة كانت تشتعل ثم تتراجع بفعل الضغوط الدولية أو التسويات الثنائية.
ما يزيد من احتمالات التهدئة هو امتلاك البلدين لقوة الردع النووي والترسانة الصاروخية، وهو معطى يجعل البلدين حريصان على عدم الانزلاق نحو حرب شاملة ستكون خسائرها وتكاليفها باهظة.
وعلاوة على أن كلا البلدين يواجهان تحديات اقتصادية قد تمنعهما من تصعيد الأزمة إلى حرب شاملة فإن المجتمع الدولي لن يقف مكتوف اليدين أمام أي تصعيد يقود إلى حرب شاملة بي البلدين، خصوصا من جانب الولايات المتحدة والصين ودول الاتحاد الأوروبي والتي غالبا ما تعلب دورا مهما في احتواء الأزمات بين البلدين لتجنب أي تداعيات للحرب على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي.
ومعروف في التاريخ القريب للعلاقات الهندية الباكستانية حصول توترات حادة بين البلدين مرات عدة، ونجح البلدان في كبحها، غير أن الفارق الوحيد هذه المرة هو الإجراءات غير المسبوقة المتخذة من جانب الهند بتعليق العمل باتفاقية نهر السند.
وهنا يتعين الإشارة إلى أنه ومنذ إعلان كل من الهند وباكستان امتلاك الأسلحة النووية في التسعينيات، توقفت الحروب الواسعة النطاق بين البلدين، في حين أن تجاذبات الأزمة الحاصلة ستأخذ مدى زمنيا طويلا نسيبا، قد يلجأ فيها كل بلد لممارسة الضغوط الإقليمية والدولية على الآخر قبل أن ينخرطان في نزاع عسكري واسع النطاق.
والحديث عن مخاوف من مخاطر استغلال أطراف دولية حليفة لجر البلدين إلى حرب بالوكالة، كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية الحليفة للهند، والصين الحليفة لباكستان تبدو مبالغا فيها كثيرا، فالدعم الأمريكي المعلن عنه مؤخرا للهند، لا يضع في اعتباراته هزيمة باكستان قدر ما يهتم ببناء علاقات مع الهند لمواجهة الصين.
خطة ملائمة
من المعروف أن نهر السند يمثل شريان الحياة بالنسبة لباكستان، حيث يلعب دورا حيويا في الاقتصاد والزراعة وإمدادات المياه للشرب، وكان امرا طبيعيا أن تعتبر باكستان الخطوة الهندية حياله إعلان حرب كونه يمثل بالنسبة لباكستان مسألة حياة أو موت لا جدال فيها.
ويمكن القول إن قرار الهند تعليق اتفاقية مياه السند بالخطير فعلا، فهذه الاتفاقية تمثل شريان الحياة لباكستان في حياتها الزراعية والغذائية ولذلك وصفت إسلام أباد القرار الهندي بانه إعلان حرب، وسيتعين على الهند إن أرادت التهدئة إلغاء قرارها لتمهيد الطريق نحو تسوية سلمية للازمة، بدلا من تصعيد قد يقود البلدين إلى حرب ستغرقهما بلا شك في حمامات دم.
وحساسية هذا الملف تفترض على المجتمع الدولي التدخل سريعاً للمساعدة بنزع فتيل التوتر قبل أن يتطور إلى حرب شاملة، نظراً لامتلاك البلدين قنابل نووية، بالإضافة إلى صواريخ بعيدة المدى.
والدعم الذي تحظى به باكستان من الصين، وكذلك الدعم الذي تحظاه الهند من الولايات المتحدة، يمكن أن يؤجج حدة النزاع، مع استمرار البلدين بحشد قواتهما على الحدود والاستعداد لمواجهة عسكرية شاملة، وهي التطورات التي قد تقلل من احتمالات نجاح الوساطة الدولية للتهدئة، بما قد يحول البلدين إلى مسرح لصراع دولي مفتوح على كل الاحتمالات.
والتداعيات المتوقعة في حال وقف الهند تدفق مياه نهر السند نحو باكستان أو تقليلها أو حتى إغراق الأراضي الباكستانية بالمياه، تبدو خطيرة، إذ أي خطوة في هذا السياق قد تواجه برد فعل باكستاني عسكري عنيف سيقود البلدين لحرب شاملة.
مع ذلك يمكن القول إن التهديدات التي أطلقتها الهند بوقف تدفق نهر السند نحو الأراضي الباكستانية تبدو صعبة التحقق في ظل الصعوبات الفنية التي قد تواجه نيودلهي لوقف تدفق المياه على الفور، نتيجة عدم امتلاكها البنية التحتية اللازمة لذلك، ومحاولة بناء بنية تحتية لذلك ستحتاج إلى أكثر من 10 سنوات، ناهيك عن أي خطوة كهذه ستمثل انتهاكا للقانون الدولي من جانب الهند وستعرض الهند لانتقادات قوية.
وأقصى ما تستطيع الهند عمله اليوم هو تقليل تدفق المياه عبر نهر السند نحو باكستان أو أن تسمح بتدفق كميات كبيرة من المياه المخزنة في سدودها الكهرومائية لإغراق الأراضي الباكستانية وشغل حكومة إسلام أباد بآثار الفيضانات.