هناك العديد من المفارقات العجيبة التي تسير عليها السياسات العربية دولا وأنظمة، وهي ناتجة عن الاستثمار الذي خلقته السياسات الاستعمارية التي اقتسمت تركة الخلافة العثمانية بعد إسقاطها والاستيلاء على الأقطار العربية، ولن نسرد كل تلك المفارقات، بل سنتطرق إلى بعضها مع أن تلك المفارقات تستعصي على العد لكثرتها، وتنوعها في كل المجالات، منها: حينما كانت الإمبراطورية الإيرانية تمثل الذراع المتقدم للغرب كانت كل الأنظمة العربية في وئام وصداقة معها، ولما سقطت وأعلن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية انقلبت الأنظمة عليها وناصبتها العداء ودعمت ومولت الحرب عليها في حرب استمرت بين الأشقاء لأكثر من ثماني سنوات تحت يافطة مواجهة المد الفارسي، ولما انتهت الحرب تم التآمر على العراق وتحطيمه وهو الذي كان مدافعا عن البوابة الشرقية للأمة العربية، ومن حرب إلى أخرى وجدنا من كانوا يدعمون العراق هم من يدعمون القوى الإمبربالية لاحتلاله ونهب ثرواته وهكذا، أيضا من دعم الجهاد الأفغاني المقدس ضد الاحتلال السوفيتي هم من دعموا أمريكا والمتحالفين معها لاحتلال أفغانستان والحلول مكانه وبديلا عنه.
وفي كل أزمة أو حرب وجدنا ذلك التحالف ذاته من الشرق حتى الغرب ومن الشمال حتى الجنوب وفي كل مأساة تحدث نجده حاضراً بأدواته وخططه وبرامجه، أما سياساته المعلنة فإما ديمقراطية تحمي من يريدهم ومن يسمح لهم بالحكم، أو ديكتاتورية أو ملكية تتحكم بالأمور إلى الأبد وتنفذ التوجيهات إلى ما لا نهاية.
وفي القضية الفلسطينية تم اعتماد منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتم تسليم أمور التفاوض على الشعب الفلسطيني لها وممارسة الضغط عليها للقبول بالحلول المقترحة لتشريد الشعب الفلسطيني، ولما برزت حركات أخرى بفعل الوعي المتقدم للشعب وانحسار المد عن المنظمة توجهت كل الجهود لتحطيم تلك الحركات التحريرية نزولا عند رغبة الصانع وصاحب الوعد (بلفور بريطانيا) والداعم الأساسي للصهاينة (أمريكا) والممول وهم بقية أعضاء الحلف الصليبي الصهيوني (العربي والأجنبي)، مارس الكيان الصهيوني أقذر الأساليب الإجرامية لاغتيال القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج، وكان الرد من المقاومة بمثابة الإجرام في نظر المتحالفين حتى انهم يرحبون باغتيال القيادة السياسية للمقاومة ويدينون الرد حتى لو كان باستهداف الجنود المدججين بالسلاح والملطخة أيديهم وبنادقهم بدماء الأبرياء من الأطفال والنساء والعزل من أبناء الشعب الفلسطيني.
تخلى الجميع عن دعم نضال الشعب الفلسطيني، وترك وحده لمواجهة الإجرام والبطش والغدر الصهيوني والمتحالفين معه، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل أن التوجيهات وصلت إلى اعتبار المقاومة إرهاباً وشنت الحرب عليها والتضييق عليها في كل الدول المتصهينة عربية أو إسلامية أو غيرها (شرقية وغربية) واتجهت إيران في متجه آخر هو دعم حركات المقاومة الإسلامية وغيرها بالمال والسلاح، وهنا تم توجيه الاتهام لها بأنها تعمل بالتنسيق مع اليهود سرا، وفي العلانية تدعم المقاومة، أما من يدعم الصهاينة سرا وعلانية فلا يلام أو توجه إليه تهمة خيانة القضية الفلسطينية.
وفي السعي لتفسير ثبات العلاقات السياسية وانحدارها من جهة، فهي نامية ومتطورة مع الصهيونية العالمية والحلف الصليبي، ومتدهورة وعدائية مع أشقائها وجيرانها، كما هو حال غالبية سياسة الدول العربية، يرجع الدكتور حامد سليمان في كتابه القانون الدولي العام إلى نظام الحماية الاستعمارية والقانون الدولي الذي اسسته الدول الأوروبية المسيحية (تنظر إلى شعوب إفريقيا وآسيا نظرة استغلالية بحيث تقوم على العداء.. وأنها شعوب خارجة عن الأسرة الدولية، ولا غنى عن استغلال مواردها وثرواتها للدول الأوروبية المسيحية بأسلوب الاستعمار المباشر أو الحماية الاستعمارية) ص106.
تم استعمار العالم كله ومن جملة ذلك اقتسام الوطن العربي والإسلامي، وتحررت دول بفعل النضال المسلح، وبقيت الالتزامات التي أقامت الممالك والأمراء هي الأساس، فقد أعطى عبدالرحمن آل سعود تعهداً خطياً للمندوب البريطاني بإقامة وطن قومي للمساكين اليهود أو غيرهم على أرض فلسطين، وأنه لن يخرج عن إطار السياسة البريطانية حتى قيام الساعة، وهو ذات الأمر الذي اختطه أمراء وحكام الخليج عام 1892م ونصه كما ذكره المؤلف سابق الذكر “أني لا أدخل ابدا في قرار ما ولا محاورة مع أحد من الدول سوى الدولة البهية الانكليس ولا أقبل أن يسكن في حوزة ملكي وكيل من دولة غير الدولة البهية (الانكليس) ابدا، لا أسلم ولا أبيع ولا أرضى، ولا أعطي للتصرف أو للتبرع بنوع ما شيئا من ممالكي لأحد إلا للدولة البهية الانكليس) ص 107.
وهذه التعهدات هي التي يتم تنفيذها، فالإنجليز أعطوا ما لا يملكون لمن لا يستحقون، والآن الوكلاء والتابعون يسيرون على ذات المنهج يوالون الإنجليز ويحابون أشقاءهم على أرض فلسطين، ويعملون على محو هوية الشعوب الخليجية واحلال النموذج الغربي أساسا في كل مجالات الحياة، فيتم تحليل الشذوذ والمثلية ومحاربة الروابط الأسرية وهدم البنيان الاجتماعي من خلال تعديل المناهج ومحاربة التوجهات الدينية تحت عنوان مكافحة التطرف والإرهاب، أما دعم الصهاينة وامدادهم بكل ما يحتاجون لإبادة وتشريد الأشقاء في أرض فلسطين فهو واجب، لأن من أوجد الكيان الصهيوني هو من أوصلهم وسمح لهم بالبقاء حكاما على عروشهم.
لقد تم إحلال الحرام وتحريم الحلال، وتجاوزت سلطات بلاد الحرمين الشريفين إلى تحريف مصدر الهداية وأساس رسالة الإسلام وخاتمة الرسالات القرآن الكريم، لتناسب توجهات الخضوع والاستسلام لليهود، قراءة وتفسيرا وسلوكا وممارسة، وتم منح التسهيلات الكبيرة لليهود والنصارى للتملك، وهي خطوة أولية لإقامة ما سبقته بها الإمارات من إنشاء حائط مبكى لليهود ومعبد للهندوس، والدعوة إلى الدين الإبراهيمي الجديد الذي بشر به محمد بن زايد، ويتفوق عليه محمد بن سلمان باستعانته بهيئة الترفيه التي حلت محل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تم سجن العلماء والدعاة، وإتاحة المجال أمام الدعارة والفجور وعلى أرض الحرمين الشريفين، فإذا كانت كل هذه المنكرات أساس السياسة والتوجه الجديد للنخب الحاكمة، فإنها ليست سوى تنفيذ للتعهدات السابقة، ومن هنا نفهم كل تلك التحركات لخدمة الكيان الصهيوني ودعمه ضد الأشقاء على أرض فلسطين، وشيطنة محور المقاومة، وشن الحملات المتتابعة على كل الأصعدة لمواجهته وتجيش جماهير الأمة ضده ” وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ”.