وقفة مع “صنارة لإصطياد المخاوف” لإبراهيم الفلاحي


صفوان يحيى الشويطر –
القراءة في شعر إبراهيم الفلاحي أشبه بالاشتراك في سباق ماراثوني دون أي استعداد بدني يقيك الإصابة بشد عضلي أو التواء !
ذلك أن قصيدة الفلاحي تقتضي من قارئها طاقة ذهنية عالية وذائقة مشحوذة و” مسننة ” قادرة على التفاعل مع اكتنازات القصيدة وحمولتها المترعة ..
إنها إذن قصيدة “متطلبة” تشترط قارئا نابها ومتأنيا يقبل الانخراط في لعبة النص برضا كامل وإدراك واع لما تحويه من إدهاشات و كشوف جمالية.

والقول بتطلب القصيدة “الفلاحية” لا يعني بالضرورة نخبويتها بل على العكس, يعي شاعرنا تماما كيف يقدم قصيدته “الزئبقية “العصية على الناقد المتحذلق والقارئ الكسول معا.
إنها قصيدة مْغوية تجيد التمنع وتشفير مكنوناتها كلوحة سوريالية تبدو مكوناتها مفتقرة للترابط الظاهري فهي على درجة ما من التعقيد لتواشج مستوياتها الدلالية والتركيبية حيث تتداخل وبعمق ثنائيات”التخييل ,التركيب”” البناء , التشكيل ” ويتوازى بشكل خلاق تعقد الصورة مع تعقيد الجملة بما يجعل انزياح الصورة يتماشى تماما مع وقع الجملة الشعرية بجرسها الخافت وامتدادها المركب.
قصيدة الفلاحي تتموضع وفق آلية اشتغال تعمل على تركيب صورة شعرية ما في مطلعها ثم انسياب حشد هائل ومتعاقب من الصور الشعرية بعضها مرتبط وبعضها غير مرتبط بالصورة الأولية التي سرعان ما تتنافر وتتصادم مع غيرها من الصور المبلبلة والجامحة وذلك ما يجعل فيها ملمحا سورياليا ( ليس بالتوصيف المدرسي للسوريالية بل بالمنظور الرؤيوي لها) حيث حركة النص تنبثق من اللاوعي وحيث لا إحالة إلى حالة واعية إلا فيما ندر , وحيث القصيدة بمجملها دفقة متوترة عالية الكثافة من التخييل تصبح من خلاله الصورة الشعرية غرائبية , فشاعرنا يوظف التغريب الدلالي للصورة بأقصى إمكانية متاحة سواء على مستوى انزياح المفردة عن حقلها الدلالي أو على مستوى اللاثبات البصري القائم على تشكيل الصورة في شبه جملة أو التلاعب المقصود بعناصر المسند والمسند إليه داخل الجملة .
الصورة الشعرية لدى شاعرنا طموحة, بحيث تنزع للاكتشاف و تحمل قدرا من اللاترابط و التعقيد القائم على تداخل الحسي المركب مع المجرد ما يجعلها تخرج عن الشعرية التقليدية التي تكتفي بمحاولة إثارة المدرك الحسي للمتلقي, صورة مغامرة ترمي للتجاوز و تأسيس شعريتها الخاصة القائمة بذاتها والتي تملك بصمتها المتميزة , لذلك لا يأبه شاعرنا كثيرا لتوزيع الفراغات أو وضع علامات التنقيط داخل النص , لأنه مشغول بتوفير أقصى طاقة لغوية ممكنة قادرة على التعبير عن الصورة و هي الطاقة التي تنتشر أفقيا بالجملة الطويلة المركبة وإحالاتها المراوغة و عموديا عبر إبدالاتها الدلالية الحافزة للمخيلة .
لا يرسم شاعرنا لوحة أو مشهدية ثابتة كما أنه لا يعبر عن حالة أو موقف بذاته – مع توافر سمات للمشهدية و الحالة بطبيعة الحال – لكنه يعبر عن استيهاماته , شطحات مخيلته , شوارد لاوعيه , انه يكتب القصيدة / المزاج التي لا تكترث بالمعنى , القصيدة التي لا تقول شيئا كما قال أودن , فنصوص المجموعة تقدم شعرية مغايرة تنبع من ممكن الحلم و ليس من متوقع الشعر .
ذلك التركيب الخاص للجملة وأشباهها ومن ثم اللعب على عناصرها التركيبية والبنائية (فاعل / مفعول , مسند/مسند إليه , محيل/محال عليه ) تدفع بالنص ” تخييلا وبنيويا” باتجاه تركيب معقد ومتداخل يبدو كأنه حلم داخل حلم و يمكن القول ان نصوص شاعرنا هي نبش واع و حثيث في اللاوعي.
آلية الاشتغال هذه تتحرك على مستوى لغوي يطمح إلى تركيب جملة قادرة على حمل صورة شعرية معقدة و متحركة , قلقة و منداحة, تتوازى مع جملة شعرية غير معنية بتنظيم عملية السير, جملة مشاكسة تربك القارئ و تفرض عليه شروطها .
وللقارئ أن يأخذ المقطع التالي مثالا مباشرا لما اقصده :
( أطلت الأشياء ناهدة البلوغ كرغبة تستعمل التحديق ثاقبة كأن فسوقها تنمو رؤؤسا أو تكاد من الدخان جدائل بيضاء تغرز حالة الصمت الكئيب بكائن حي المجال .)
وإذا كان النص قد اختار شكله فقد وفق شاعرنا تماما في اختيار النسق الشكلي للنصوص و الذي يسمح بالتكثيف عبر الجملة وأشباهها المتفاوتة الامتداد حسب ما تقتضيه حركة
النص وهو- في معظم نصوص المجموعة- شكل التفعيلة المدورة المتسق مع نبض الجملة الطويلة بمتعلقاتها من الإحالة والإسناد , وهو أيضا الشكل المكتفي بالحد الأدنى من الموسقة التي لا تبرز على حساب الصورة, الموسقة المرتكزة على الوقع وهمس الحرف بسكونه وحركته .
هذا التدوير هو خيار استراتيجي كونه يحتفظ للقصيدة ببنية دائرية ليس من ناحية شكل التفعيلة و حسب بل أيضا في مضامينها و تخييلها و كما يبدو لي فإن فحص هذه البنية هو ناجع جدا في ملاحقة العقد الناظم للقصيدة الفلاحية .
هذه الحركة الدورانية- إن جاز التعبير – موجودة في اغلب النصوص إما بشكل صريح من خلال دلالة السياق أو بشكل ضمني عبر بنية النص نفسه و حركته منذ المطلع و حتى الختام .
بعض القصائد تتكون من مقاطع, حيث كل مقطع يبدأ على منوال المقطع السابق له متحركاٍ من صورة متماثلة أو متعارضة أو متشابهة مع تلك التي بدأ بها المقطع السابق .
علاقة التوازي / التضاد / التماثل بين صور المقاطع داخل القصيدة الواحدة توحي بحالة من الحركة الدائرية للتخييل الذي ينطلق من صورة ما, ليعود إليها في مقطع آخر و لكن من خلال علاقة جديدة تتقاطع مع سابقتها جزئيا أو كليا أو نوعيا ….
يبدو ذلك في قصائد ” ساخنا كمياه الولادة ” , ” صنارة لاصطياد المخاوف ” و في هذه الأخيرة تتكرر عبارة (أحمل نزوة معناي عارية ) في مقدمة مقاطع القصيدة الستة, ليعمل تدفق الصور المتلاحقة داخل كل مقطع على حشد تخييلات تدل عليها أو تحيل عليها , وهي صور متتابعة تصل في آخر النص إلى صورة وحيدة في المقطع السادس و هي (صنارة لاصطياد المخاوف ) و كأن هذه الصورة هي اكتفاء قسري لتوصيف الحالة الشعورية بعد تنويعات من الصور ذات العلاقات التبادلية مع نظيراتها في المقاطع الأخرى .
الذات الشاعرة (في هذه المجموعة على الأقل) ليست مسكونة بالهواجس الشعرية المألوفة هواجس البوح أو الوجع , كما أنها ليست بتلك الذات الفردانية المتشظية التي تحاول الانعتاق من حزازات وجودها , لكنها الذات المثقلة بالأشياء من حولها ,المنشغلة بما يمكن أن تسفر عنه الموجودات حال تغيرها و ما تحدثه هذه الصيرورة /السيرورة للأشياء من اثر على الذات بل و مع الذات , إنها الذات المهووسة بإدراك الأشياء انطلاقا من موقع تلك الأشياء خارج الوعي .
في نصوص المجموعة تتعدد الحالات الشعورية تبعا للصور الشعرية التي تمتاز بالمغايرة ما جعلها قادرة على المفاجأة و إثراء حساسية المتلقي , وإذا كان لنا أن نمر على بعض الصور المجتزأة من داخل النصوص سنجد أن الحالة الشعورية الواحدة سواء بدلالتها الصريحة أو الضمنية تم استيلادها.
مثلا حالة اللاشكل تبرز في عدد من القصائد بدلالتها المباشرة , انه نزوع الذات للتشكل و تشكيل الأشياء . .
( أشعث جانبا خلفت وجهي في تذكره فساح و أضمرت جهة الجبال عيونها لا شكل للأشياء قبل حدوثه )
وبدلالة غير مباشرة للحالة ذاتها ..
(مفتوح على معناه , يحمل موجبات نشوزه العضوي , غير معرفُ بسواه لا متشابه , متعدد لا اسم و لا صفة تحددهْ كذلك ) , (تتسلل الأشياء كي تلد الشبيه بها , المهيمن من خلالي كي أكون مخاضها الآتي من اللاشيء ) هذا إذا اعتبرنا أن الشيء يعد شكلاٍ فيما اللاشيء هو اللاشكل .
كما يهتم شاعرنا بموتيفات الريح و الظل و المرآة و الفراغ و هي أشياء لها دلالات مرتبطة باللاشكل أو على الأقل مراوغة الشكل , فالظل – مثلا – في حالة تغير في الشكل بحسب حركته مع الضوء , كما أنه يتشكل وفقاٍ لصورة الشيء .
و اللاشكل يقترب أيضا من حالة التأرجح و اللاتحديد التي تتبدى أيضا في ثنايا النصوص و صورها المختلفة ..
(تأخذ وجهك – في حالة الاتكاء على أي شيء – لبعض السباكة / توعز لو تعود مغايرا )
انه التوق إلى التعالق مع الأشياء أملا في التغاير و التجاوز ..
( لأحاول التعبير عن إشكاله أجلتْ شكلي في النمو كأحدُ في أسفل التقويم اسهوني ليحضر شكله متأخرا ) ..
تتبدى حالة من ” تعذر التوصيف ” التي تواجهها الذات إزاء شكلها في النمو ما يدفعها للتحايل و السهو المقصود لعل شكلا آخر يقرر إمكانية ذلك حيث تتقابل ” محاولة التعبير عن أشكاله مع أحد في أسفل التقويم ” مثلما يتقابل التأجيل مع السهو و يتقابل حضور الشكل في النمو (أي الشكل ضمن سياق زمني ) مع ” ليحضر شكله “, أي الحضور الآني للشكل منقطعا عن زمانيته , أي أن أحد في أسفل التقويم هو ضمن قائمة من احتمالات الشكل الذي تقوم الذات بالسهو عنه و تجاهله لعله يظهر أكثر تأخرا ..
(تحلم الأشكال بالتحديد أحلم بانزياحي بانحلال محددي بالنقض والتبديل حسب هوية الوقت المكافئ ).
” لم تطمث الأحلام دورتها ” , من العنوان تتجلى الصورة بدلالة الدوران الزمني و النص هنا لا يقوم على التقسيم الشكلي إلى لوحات و لكنه يتحرك ضمن انتقالات لضمير الفاعل في الفعل الماضي , إذ يقوم هذا النص على سياق لغوي و تخييلي يكرس دلالة تحولات الشكل ( الشيء / المكان ) ضمن الزمان , ففي السطر الأول هناك صورة الرياح التي تدرج أشكال حضورها .. ( أيام كان الشكل يعني الشيء ) ثم .. ( أحاول الإجهاض ..عشت أكثر من محاولةُ لأبدأ فانتهيتْ كومضةُ منهوكة الميعاد,أرجئت الحياة كغيرها )
يبدو أن الشكل في صيرورة تغيراته يأخذ هو أيضا شكل التحول الزمني , و التشكل – بحد ذاته – هو محاولة لخوض الحياة التي ناهضها ” النقيض الجاهلي “.. بعد أن كان الشكل يعني الشيء – أي كان في حدود التوصيف- تأتي انتقالة تالية هي محاولة التعبير عن الشكل أي إن الحالة الآن قد تغيرت من الشكل – الشيء إلى محاولة التعبير عن شكل الذات الشاعرة و التي دفعتها إلى تأجيل الشكل في النمو بدلا عن تأجيل نمو الشكل و هذا التأجيل هو عودة ” لإرجاء الحياة كغيرها “.
دلالة أخرى هي السهو ” أسهوني ” و التي يتحقق فيها حضور الشكل متأخرا ثم إعمال عاجلة الظلام لوصفه – أي الشكل – ثم لاحقا (أطلت الأشياء ناهدة البلوغ ) بعدما ( بدأت انقل جثة الإمكان حتى كان ) أي بعد تنفيذ انتقال في حيز المكان لجثة الإمكان , و الإمكان هنا يتضمن دلالة التحول في الشكل كإمكانية في الشيء , وفي السطر الأخير استمرارية زمانية لحدوث فعل من الماضي و ممتد حتى الآن لكنه لم
يسفر عن شيء ( التي لا زال موسمها يئن كربوةُ لم تطمث الأحلام دورتها ) .
الشعور بالوطأة يتمثل في كثير من الصور الشعرية و منها 🙁 واقعَ إثر نهد , حجرَ علي كأنه رأسي , أبصق في مؤخرة اليوم , لا شيء أسوأ من أن يطأك بنفس الطريقة , أحمل نزوة معناي , مثقلا بالعناوين , ممتلئا بالفراغات , منعرجاٍ بالتساؤل , رأسي كشاهد عزلتي و أنا الذي انتعلته ألسنة الرصيف , أفلت من يقظتي كي تمر الكآبة , على رئتي شارع أدمن القرفصاء …) هذا الشعور يندرج ضمن الموقف الاشكالي مع الأشياء حيث الذات الشاعرة تسعى لفض اشتباكها الدائم مع كل من حولها .
حالة الدوران هي أيضا حاضرة داخل القصائد , وهي الحالة المشابهة لبنية القصيدة – كما سلف القول – و الدوران هنا لا يقتصر على توظيف التفعيلة المدورة و لا يعني حركة الزمن و إن دلت بعض الصور على ذلك , و إنما الدوران بقصد الحركة المتبادلة و المتناقلة في بعض عناصرها مع أشياء أخرى مقابلة , متناظرة , متشابهة أو مناقضة ..
( كن موعدا أيها الظل حتى اكتمال الضفادع في مكان سقيم ),
( ناعورة أخرى تدور لوصل معناها )
و هو ليس بذلك الدوران الرتيب و المكرور , لكنه الدوران الحيوي النشط حيث كل نقطة في محيط الدائرة تتفاعل مع كل نقطة اخرى سابقة أو لاحقة أو مقابلة.
قصيدة ” روحي نجمةَ ثْقبت من الأعلى ” تتكون من 3 لوحات , في الأولى:( نتقاسم اللاشيء , نْثني من خلال الوقت ظل غوايةُ ) , و في الثالثة 🙁 تقاسمني الجهات رغيفها كظل من خلال الريح يلمع بعضه ).. فعل التقاسم يتغير , الجهات و اللاشيء يتقابلان كنقيضين (التحدد / اللاتحدد )
يمكن أيضا تحسس هذه الانتقالات الدورانية – إن جاز التعبير – في قصيدة ” اختال بين أنوثتين كفاقةُ ” في اللوحتين الأولى و الأخيرة , حيث في الأولى للفراغ طريقة في غزل التماثل و في الأخرى الظل يفقد شكله في الفراغ , أما في قصيدة ” و تدخن الرؤيا متاهاتي ” لوحتين , الأولى تنطلق من واقع فارغ المعنى و الثانية من واقع في التماثل ثم تتوالى الصور التي تختلف أو تتفق مع بعضها دلاليا ,فاللوحة الأولى فيها دلالات الصمت , الأنثى / الآخر , قرفصاء الوقت , و في الثانية نجد ” قلت أنا ” في مقابل ” الصمت الحاد ” و “أعلنت فرديتي ” في مقابل ” أنثاي المشرعة ” التي هي بوجه ما تمثل الآخر,و” قرفصاء الوقت ” مقابل ” عازل للوقت ” .
يمكن الاطمئنان إلى القول أن المنجز الشعري لإبراهيم الفلاحي يضخ دماءٍ جديدة في جسد الشعر اليمني المعاصر سواء من حيث القاموس الشعري أو الأدوات التعبيرية وأسلوب الكتابة حيث القصيدة هي بمثابة وثبة تواقة لصعود ذْرى جديدة لم تصلها شعرية أحد من قبل
و هذه المجموعة إيذاناٍ بذلك .

قد يعجبك ايضا