هي أشبه بكابوس يسيطر على الوعي الجمعي، كابوس ليس لتداعياته أفق أو نهاية، خاصة أن كل أطرافه أو صناع هذا الكابوس يغلبون (الذاتي) على (الموضوعي) في صراع تراجيدي عبثي يفرض فيه (شايلوك) ثقافته وقانونه..!
بين قانون (شايلوك) المرابي اليهودي في مسرحية وليم شكسبير (تاجر البندقية) وبين خيارات (شمشون) الكنعاني الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه، يتجلى المشهد الوطني والقومي ويتلحف برداء انتهازية المتصارعين الباحثين عن ذاتهم على أنقاض وطن وأمة وتطلعات وأحلام شعب عربي كل ذنبه أنه وقع أسيراً لنخب تجردت من كل صلة لها به ولم تعد ترى فيه أكثر من كونه (حصان طروادة) تستغله للوصول إلى أهدافها الذاتية..!
وفق قانون (نظام التفاهة) فإن ثمة نخباً تجاوزت بتفاهتها هذا القانون وشروطه، كما تجاوز هنا الانتهازيون بسلوكهم الانتهازي شروط (ميكافيللي) بانتهازيته ومبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة)..
ثمة ( فنتازيا) عبثية تكرس قانونها الاستثنائي الذي ترى فيه أطراف الصراع فرصة لفرض خياراتها والانتصار لأهدافها الذاتية على حساب كل ماهو موضوعي (والموضوعي) هنا هو الوطن الواقع بين حراب المتحاربين وسهام الآخر الخارجي الباحث بدوره عن مساحة للنفوذ تأمينا لمصالح خاصة به مرتبط تحقيقها بانتصار أي من الأطراف المحلية المتصارعة، لأن المنتصر المحلي سيكون هو الوكيل الأقوى والأفضل للآخر الخارجي، بمعنى أن الوطن باقٍ في ( بازار النخاسة) إلى أجل غير معلوم..!
ليس ثمة مشروع جامع، كما هو الحال بالنسبة للجغرافية الكلية التي تتنازعها محاور النفوذ فيما القائمون عليها _مجازا _ عاجزون عن امتلاك قرارهم، بمعنى أن تداعيات اللحظة _ وطنيا _ ليست إلا انعكاسا لتداعيات اللحظة _قوميا _ حالة تعبر أو بالأصح تؤكد حالة الفراغ الجيوسياسي والاستراتيجي على الصعيدين الوطني والقومي، وهي حالة تنم عن غياب المشاريع الوطنية والقومية وغياب التأثير والقرار الوطني والقومي، الأمر الذي جعل الجغرافية الجزئية والكلية خاضعة لصراع محاور النفوذ الإقليمية والدولية التي اختارت الجغرافية العربية مسرحا لمبارزتها وساحة لصراعها في تأكيد على أن القائمين على هذه الجغرافية المستباحة ليسوا إلا (بيادق) تحركهم أنامل خارجية وليس لهم رأي أو قرار فيما يعتمل على خارطتهم وحتى في مواقفهم التي يمارسونها حسب الطلب..
يمكن وصف ما يجري على الخرائط الوطنية والقومية بأنها ملهاة تمارس وفق أعلى درجات العبث والسخرية من الأمة وحقيقة وجودها وقدراتها وإمكانياتها وتراثها الحضاري والإنساني.. نعم مرت الأمة هذه بالكثير من الانتكاسات والهزائم لكنها لم تعش يوما حالة الاستلاب العبثي الذي تعيشه اليوم رغم مزاعم البعض عن إمكانيات وقدرات وحضور إعلامي منمق ساخر من هوية الأمة ودورها ورسالتها الحضارية..!
مشاهد مقززة تعكس حالة الانحدار التي بلغتها الأمة، بدءاً من الخليج المترف بعبث التسوق والرفاهية المصطنعة التي تشير كل مظاهرها إلى حالة انحطاط سلوكي وحضاري غير مسبوقين في التاريخ، إلى الشرق المثخن بحراب التنافس الجيوسياسي بين محاور النفوذ، فتبدو الأمة (كغانية حسناء) يتهافت عليها أمراء من غير أهلها وكل أمير يسعى بجعلها (محضية) خاصة له دون غيره..
بيد أن من سخرية الأقدار أن نجد (الفلسطيني) المحتل أرضه والمشرد من وطنه والواقع تحت سنابك خيول احتلال عالمي تقوده الصهيونية العالمية، هذا الفلسطيني المقاوم هو اليوم الرقم الصعب في الأمة والوحيد الذي يدافع عن وجودها الحضاري، فيما الآخرون الذين يتمتعون بقدر من استقرار مزيف يلهون بعيدا عن استحقاقات اللحظة تاركين هذا الفلسطيني وحيدا في المواجهة غير مدركين أن هذا الفلسطيني هو الذي يخوض المعركة دفاعا عن وجودهم وعن عبثهم ولولاه لما تمكنوا حتى من ممارسة عبثهم أو الحفاظ على مشاهد انحطاطهم الحضاري والتاريخي..!!
لقد تحولت الجغرافية العربية إلى مسرح لصراع دولي ليس لأي من أنظمته مكانة أو دور في هذا الصراع الذي تدفع ثمنه الأمة من وجودها السيادي والحضاري فيما أنظمتها غارقة في ( مخادع العبث)، أنظمة جعلت من أقطارها بمثابة (مواخير) و(بازارات) تباع فيها السيادة والكرامة والحرية والاستقلال مقابل أموال مدنسة، أموال يا ليت أنها ستكفي لجعل هذه الأنظمة مستقلة اقتصاديا، بل تضاعف من تبعيتها وارتهانها وتعمل على تطويق رقاب شعوبها بمزيد من سلاسل العبودية.