صرخة الضمير الإنساني أفقدت الكيان اهم داعميه: هل ينهي قرار الأمم المتحدة حرب الإبادة الصهيونية في غزة ؟
حتى اليوم تتحاشى واشنطن وتل ابيب الحديث عن تداعيات هزيمة قانونية وأخلاقية منيت بها الصهيونية وداعميها في الأمم المتحدة في الخطوة التي اتخذها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتفعيل المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة، وما أعقبها من اقرار جمعيتها العامة مشروع قرار نص على وقف فوري إنساني لإطلاق النار في غزة بتأييد من 153 دولة في أول موقف دولي حازم تجاه أكثر جرائم الحرب همجية في التاريخ.
الثورة / أبو بكر عبدالله
على أن مصادقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار المقدم من المجموعتين العربية والإسلامية لوقف فوري إنساني لإطلاق النار في غزة بتأييد من 153 دولة لن يكون ملزما كما لوكان صادرا عن مجلس الأمن الا أنه فتح الطريق فعلا أمام تغيّر شامل في المواقف الدولية التي منحت دولة الاحتلال الضوء الأخضر في حرب الإبادة التي تقودها على غزة منذ أكثر من شهرين.
القرار مثل إنجازا مهما للدور الذي قاده الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش بتفعيله المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة في الخطوة التي قلبت المعادلات الدولية رأسا على عقب وحشرت حكومة الكيان الصهيوني في مأزق قانوني وسياسي وأخلاقي، حول جميع المواقف المؤيدة إلى مواقف إدانة وسخط غير مسبوق.
عندما وجه أمين عام الأمم المتحدة انطونيو غوتيريش مذكرة إلى مجلس الأمن بتفعيل المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة قبل نحو أسبوع، كان عدد الضحايا المدنيين في غزة قد تجاوز الـ 16 ألف مدني وعشرات الآلاف من المصابين والمفقودين وملايين المشردين كما خلف دمارا شاملا في القطاع لم يسجل له مثيل في تاريخ الحروب التي شهدتها المنطقة منذ عقود.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها الأمين العام للأمم المتحدة إلى تفعيل المادة (99) خلال عقود، وسعى من خلال دفع مجلس الأمن لتحمل مسؤوليته واستخدام كل نفوذه لمنع الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، في ظل حالة غضب اجتاحت دول العالم بما فيها الدول الكبرى الداعمة لحكومة الاحتلال، أعلنت بوضوح رفضها ما يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من جرائم حرب وحشية تنتهك كل القوانين الدولية والإنسانية.
ورغم ما اثارته هذه الخطوة من تساؤلات بشأن ما إن كانت قادرة فعلا على تجاوز الفيتو الأمريكي ونفوذ الدول الكبرى الداعمة لحكومة الكيان، إلا أنها سرعان ما كسرت جدار الصمت حيال ما يدور من جرائم إبادة في القطاع، بعد أن حملت إنذارا بالحاجة العاجلة لوقف النار لتجنب كارثة وشيكة مع انهيار النظام الإنساني في القطاع وعجز المنظمة الدولية عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2712 بشأن توسيع نطاق وصول الإمدادات لتلبية الاحتياجات الإنسانية للمدنيين.
صلف صهيوني
يخوّل نص المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة الأمين العام أن يحث مجلس الأمن على البحث في أية مسألة يرى أنها قد تهدد السلم والأمن الدوليين” وإصدار قرار حاسم بشأنها وهي حالة تطابقت مع واقع جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة، حمل غوتيريش إلى دعوة مجلس الأمن لتحمل مسؤوليته واستخدام كل نفوذه لمنع الكارثة الإنسانية في القطاع.
تماهى الموقف الأممي مع حالة غضب تجتاح دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى الداعمة لحكومة الاحتلال، والتي أبدت شعوبها رفضا واستنكارا لما يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من جرائم حرب وحشية تنتهك كل القوانين الدولية والإنسانية.
من جانب آخر، عكس الجانب المغيب للموقف الدولي الذي عبرت عنه أكثر الدول الأعضاء في مجلس الأمن بدعمها 5 مشايع قرارات أممية خلال شهرين فقط، تدعو إلى وقف إطلاق نار مستدام لوقف عجلة المجازر وتقديم المساعدات الإنسانية للضحايا الذين لم يعد بوسعهم الحصول على مكان آمن في كل جغرافيا القطاع المدمر والمحاصر قبل أن يتحول المشروع إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في ظل إجماع دولي غير مسبوق على اقراره.
ذلك أن الحالة الراهنة للحرب الصهيونية في غزة تفاقمت بصورة لم تحدث من قبل في كل النزاعات المسلحة المماثلة بالنظر إلى فترتها القصيرة التي أفضت في يومها الـ 67 إلى 1576 مجزرة جماعية، بـ 18 ألف شهيد بينهم 7870 طفلا ونحو 49 ألف جريح وأكثر من 8 آلاف مفقود و1.4 مليون مشرد، ناهيك عن دمار شامل طال أكثر من 300 ألف وحدة سكنية تضررت جزئيا وكليا بما يعادل 60 % من الأعيان المدنية والحكومية.
ورغم أن الأمين العام للأمم المتحدة استخدم بهذه الخطوة السلطة التي يخولها له ميثاق المنظمة الدولية لتلافي أزمة إنسانية كبيرة تلوّح بمخاطر تهدد الأمن والسلم العالميين، فقد اتسمت ردود الفعل الإسرائيلية بقدر كبير من العنجهية عندما اعتبرت أن ولاية أمين عام الأمم المتحدة “تهديد للسلم العالمي” بل واعتبارها الدعوة لوقف إطلاق النار دعما للإبقاء على “حماس” في السلطة.!
وكان لافتا أن المقاربات التي قدمتها حكومة الكيان تجاه خطوة غوتيريش، لم تختلف عن تلك التي قدمتها واشنطن والتي كشفت عن توجهات لمنح الكيان حرية تدمير قطاع غزة وتشريد سكانه، بل والمضي بمخططها المعلن بالتهجير القسري وتصفية القضية الفلسطينية.
هزة سياسية
بعد أكثر من شهرين على التواطؤ الذي أبدته واشنطن وحلفاؤها تجاه الجرائم الإسرائيلية المريعة في غزة، بدت دولة الاحتلال قلقة من احتمالات فقدانها هذا الدعم، ضمن تحركات دولية تستند إلى مواثيق الأمم المتحدة، سيما وأن المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة ستحوّل الأمين العام من مسؤول إداري إلى آخر يتمتع بمسؤولية سياسية تخوله دعوة مجلس الأمن للاجتماع بصورة عاجلة والضغط على أعضائه لاتخاذ إجراءات وخطوات حاسمة تجاه القضية.
خلال تلك الفترة ظلت حكومة الكيان تتصرف بحرية في حرب الإبادة التي تشنها في غزة اعتمادا على ما تملكه واشنطن من قدرات في السيطرة على ديناميكيات مجلس الأمن عززت انقسام المجلس وصعبت من مهمته في التوصل إلى اتفاق حاسم لوقف إطلاق النار في غزة، غير أن القرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة أطاح كليا بهذا السياج، ووضع جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أمام امتحان في تحمل المسؤولية.
ذلك أن رواية الكيان الصهيوني بتصنيف سكان غزة على انهم إما إرهابيون أو موالون لإرهابين أو دروع بشرية لم تعد تقنع أحدا في العالم الذي صار يرفض السرديات الإسرائيلية ويدين بوضوح حربها الوحشية في ظل العديد الكبير للضحايا والحصار والحرمان من الغذاء والدواء والماء والتمادي بجرائم العقاب الجماعي والتوجه العلني لجرائم التهجير القسري.
ذلك ما فسر التأييد والترحيب الواسع الذي عبرت عنه الفصائل الفلسطينية تجاه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة التي اعتبرته “خطوة ضرورية تتسق مع المهام المنوطة بمؤسسات الشرعية الدولية، وتنسجم مع المواقف الدولية المحذرة من تداعيات الكارثة الإنسانية التي حلت بالمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وانهاء حاجز الصمت الدولي حيال غطرسة الاحتلال الصهيوني وتهجمه واستهانته بمؤسسات الأمم المتحدة.
معادلات متغيرة
حكومة الاحتلال التي طالما تحصنت بمجلس الأمن والفيتو الأمريكي، بدت بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في أسوأ حالاتها، وهو حال انتقل سريعا إلى دوائر القرار في واشنطن في ظل الموقف الدولي المتزايد الذي يعتبر الدعم الأمريكي سببا مباشرا في جرائم الإبادة المروعة التي ترتكبها دولة الاحتلال في قطاع غزة.
وتداعيات ذلك بدت بالخلافات التي تفجرت الى العلن بين واشنطن وربيبتها إسرائيل وأفضت إلى تصريحات نارية للرئيس بايدن، أعلن فيها بوضوح أن لدى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قرارات صعبة يتعين عليه اتخاذها بتغيير حكومته المتطرفة التي لا تريد حل الدولتين، ناهيك عن تأكيده بأن الكيان المحتل بدأ يفقد الدعم في جميع أنحاء العالم.
هذا التغير في المواقف الأمريكية لن يكون الأخير فهناك تداعيات ستكون فادحة على حكومة الكيان في ظل المطالب التي يوجهها قطاع واسع من الشعب الأمريكي للرئيس بايدن بتحويل كلامه إلى أفعال من خلال رفع اليد عن دعم جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة وليس بعيداً عنها مطالبة نتنياهو بالتنحي.
يتعين الإشارة هنا إلى أن التغير في الموقف لم يكن أمريكيا فقط، فالمواقف في استراليا وكندا ونيوزلندا وفرنسا وفي داخل أروقة الاتحاد الأوروبي كان كبيرا، في ظل توجه عالمي مناهض للكيان الصهيوني ومجازره المروعة في غزة، وهو الموقف الذي عبر عنه ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الذي أكد أن “قصف إسرائيل في غزة أسوأ من قصف الحلفاء على ألمانيا النازية”.
والمؤكد أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة زاد من شعور العديد من الدول الغربية بأنها لا تزال تمثل اقلية غير مؤثرة في مشهد الأزمات الدولية، في ظل رأي عام ضاغط بشدة على الحكومات الغربية بتبني سياسات إنسانية تتوافق مع ما تدعيه من توجهات ديموقراطية مدافعة عن القضايا الإنسانية.
ذلك أن الشارع الغربي كان ينتظر من الدول الأعضاء في مجلس الأمن أن تتعامل مع القضية الفلسطينية بقدر من المسؤولية خصوصا مع تزامن خطوة الأمين العام للأمم المتحدة بتفعيل المادة (99)، مع الذكرى الـ 75 لاتفاقيات منع الإبادة الجماعية، والذكرى الـ 75 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إجماع دولي
كان الجميع يدرك أن ما حصل في مجلس الأمن بإسقاط مشروع القرار الخامس الذي دعا إلى وقف نار إنساني في غزة عبر الفيتو الأمريكي، لن يكون نهاية المطاف فبموجب المادة (99) سيتم تقديم مشاريع قرارات مشابهة ينتقل بعدها ملف القضية الى الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو ما حدث بصورة سريعة غير متوقعة في القرار الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فجر الثلاثاء الماضي في ظل اجماع دولي على ضرورة الرضوخ للقرار من جميع الأطراف.
ما قد يساعد على ذلك أن الكثير من دول العالم لم تعد تنصت إلى الذرائع الإسرائيلية ولا أهدافها المستحيلة في القضاء على حماس وفصلها عن الشعب الفلسطيني، بل إنها صارت اليوم تضع هذه الأهداف بوصفها سببا في ديمومة الصراع وإجهاض أي جهود مستقبلية بالوصول إلى حل الدولتين.
ومع ذلك فإن الموقف الأمريكي المتصلب الرافض حتى الآن على الأقل لفكرة التوصل إلى وقف نار مستدام، قبل أن تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة، يمكنه أن يعرقل التوجهات التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها الأخيرة بوقف فوري إنساني لأطلاق النار في غزة.
ذلك أن النفوذ الأمريكي المهيمن على آليات عمل المنظمة الدولية يمكنه أن يحدث تغيير ما في موقف الأطراف الدولية.
وبخلاف التصريحات النارية التي أعلنها مؤخرا الرئيس بايدن حيال تطرف الحكومة الإسرائيلية وتلاشي الدعم الدولي عن حربها الوحشية في غزة، فإن تصريحات المسؤولين الأمريكيين تكشف أن مساعي واشنطن لمنح إسرائيل وقتاً إضافياً لتحقيق أهدافها لن تتوقف خلال الأسابيع المقبلة.
والمُرجح ان تعرقل واشنطن الوصول لهذه النقطة من خلال وسائل كثيرة، تمنح بالمحصلة حكومة الكيان الوقت الكافي لتحقيق أهدافه، والذي تقدره بحوالي شهرين.