ثمّة تحوّل في رؤية وفهم النظام العربي للقضية المركزية الأولى للأمة العربية، تحوّل لم يقف في نطاق فهم ورؤية الأنظمة الرسمية، بل ألقى بظلاله أيضاً على رؤية وفهم بعض النخب السياسية والثقافية العربية التي عرفت بعضها في نهاية القرن الماضي بمواقفها الإيجابية من القضية، غير أن المناخ العام الذي خيّم علي الواقع العربي وخاصة في العقد الأخير من القرن الماضي تزامناً مع انهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل القطب الآخر في المعادلة الدولية، وصعود الولايات المتحدة الأمريكية كقوة دولية نافذة وتفردها في إدارة النظام الدولي، هذا التحول أحدث خللاً في رؤية ومفاهيم الأنظمة العربية وبعض النخب السياسية والثقافية التي توهمت بأن ( الديمقراطية) الغائبة عن وعي الأمة كانت وراء تخلف الأمة، وفيما ذهبت هذه النخب تتلحف بدثار الديمقراطية المزعومة وتكرس في ذاكرة الوعي الجمعي والنخبوي تحديدا فكرة أن غياب الديمقراطية في سلوك الأنظمة سبب محوري لتخلف الواقع العربي، فيما المنظومة الحاكمة اعتمدت بدورها على فلسفة جديدة في تعاطيها مع واقعها مستعينة في فلسفتها هذه على (خيار السلام) كخيار استراتيجي دون أن تكلف نفسها بالاستقاء من المقومات الوجودية الكفيلة بحماية فكرتها وخيار السلام الذي طرح كمشروع وخيار للأنظمة دون أن يرافق هذا السلام ممكنات حمايته والحيلولة دون تحول هذا الخيار إلى شكل من أشكال (الاستسلام) المجاني للعدو..؟!
شكّل مؤتمر ( مدريد للسلام) المزعوم، بوابة للانحدار العربي الرسمي _أولاً _وبداية لمجاهرة عربية رسمية بالتخلي عن فلسطين كقضية تم حصرها في نطاق من يمثلها، فكانت خطوة نحو (انفلات أمني) دقّ بموجبه النظام العربي آخر مسمار في نعش ( أمنه القومي) حين توهم أن حصر فلسطين كقضية وتداعيات بيد أبنائها، فعل يعزز رسوخ النظام القطري ويمكنه من تحقيق مكاسب تنموية واقتصادية، وذهب بالتالي النظام العربي ووفق هذا المنطق يبتعد عن فكرة قومية المعركة والتحرير وأن فلسطين أصبحت عائقا أمام تنمية الدول العربية، ولذا راح النظام العربي يتعاطي مع حقائق وجوده بعقلية ( التاجر) الباحث عن المكسب، والملاذات الآمنة، وبدأ الزعماء العرب يتعاملون مع واقعهم فعلا بعقلية ( التجار ورجال الأعمال) في نطاق جغرافيتهم التي رسمها المستعمر القديم المتجدد بصور أخرى ذات صلة بجدلية الربح والخسارة، وبما أن فلسطين قضية مرتبطة بحالة صراع مع عدو استيطاني عنصري أهدافه لا تقف في نطاق الجغرافية الفلسطينية ولكن له أهداف جيوسياسية وأهداف ( ناعمة) وأخرى ذات صلة بآلية تكريس وترسيخ هوية العدو في المنطقة باعتباره جزءاً من تاريخها وليس مجرد محتل حديث الانتماء..!
بعد أتفاق ( أوسلو) الذي كان خياراً إجبارياً بالنسبة للشعب الفلسطيني وقيادته التي وصفت من لحظة توقيع هذا الاتفاق بأنه ( الاتفاق الفخ) ولكن لا بد منه، وكان الاتفاق حصيلة إدراك فلسطيني بأن النظام العربي لم يعد لديه متسعاً للتفكير بفلسطين إلا في نطاق خطاب استهلاكي تسويقي مثله مثل حديث النخب الثقافية والسياسية العربية عن ( الحرية والديمقراطية)..؟!
ما حدث في قطاع غزة مؤخراً، وما شاهدنا وتابعنا من المواقف العربية الرسمية، لم يكون مفاجئاً لمن تابع مواقف النظام العربي منذ حرب الخليج الأولى ودخول العراق للكويت وما ترتب على هذا الفعل من تداعيات ومفاهيم أدت إلى ( أركسة الوعي العربي) وتعزيز مفاهيم برزت بعد إبرام اتفاقية ( كامب ديفيد) التي رافقها خطاب انعزالي تبريري يلمّع ما أقدم عليه نظام السادات ويشرعن لمرحلة جديدة رأى أصحابها أن تنمية أوطانهم وتنميتها أولي من البقاء في أسر قضية فلسطين، التي وصلت رؤية البعض من الأنظمة اعتبارها ( قضية عبثية) وأن الشعارات (العاطفية عن العروبة والوحدة، وقومية المعركة والتحرير، ووحدة الهوية والمصير والتاريخ المشترك) كل هذه مجرد شعارات ( خشبية) مبهورين بطرق مختلفة (بتقدم وتطور وتحضر العدو الصهيوني)..؟!
وفيما اتجه النظام العربي إلى تكريس النزوع ( القُطري والخصوصية الوطنية) مؤمناً حد اليقين أن في مقدوره إن تخلى عن ( دوشة فلسطين وتداعياتها) تحقيق تنمية وتطور ذاتي، تزامناً مع هذا التوجه العربي الرسمي، برزت مواقف النخب السياسية والثقافية العربية بدورها، تقود حملة تسويق للديمقراطية الليبرالية، باعتبارها العلاج السحري لأزمة الأمة ومفتاح تقدمها وتحضرها الاجتماعي..؟!
أحداث قطاع غزة كشفت هذه الحقائق وأظهرت المواقف على حقيقتها وبأطيافها دون تنميق رسمي أو نخبوي، إذ تعاطى النظام العربي مع أحداث غزة بعقلية ( التاجر) الباحث عن ملاذات آمنة لتجارته دون الحاجة لمغامرة تفقده ما يتباهى به من مكاسب أو هكذا يتوهم، مع أن الواقع يؤكد أن لا مكاسب تذكر يمكن أن نشير إليها استطاع هذا النظام العربي أو ذاك تحقيقها، كثمن لتخليه عن قضية الأمة المركزية فلسطين..؟! وواهم من يقول أن ما تحقق للبعض من مظاهر تنموية أو بنى تحتية مشفوعة (ببروجندة إعلامية) واسعة، يمكن أن يقنع بها العقلاء بأنها إنجازات ونجاحات وطنية، لكنها بالواقع شكل من أشكال التظليل والتدليس وخداع الرأي العام.
النخب العربية بدورها سقطت في ( فخ) وهم الديمقراطية نابذة قيمها وكل الحقائق المتصلة بحقيقة وجودها وهويتها وأيضا بدورها الذي وقع في دائرة الاستلاب، قبل أن تجد نفسها تعيش في مستنقع كارثة هوية ووجود وانتماء، حين شاهدنا ( اليساري الماركسي والثوري البوليتاري) يرتمي في أحظان ( القوي الرجعية) باحثاً عندها عن أمنه وهويته، ولم يكن ( القومي العربي) بمختلف مدارس انتمائه يختلف عنه، فنحو حضن الرجعية اتجه الجميع تعبيراً عن حالة فشل وتجمد وأزمة مسار وعجز في تطوير الذات التي طغت عليها النزعات والرغبات المادية على المبادئي والقيم التي تبخرت من ذاكرة هؤلاء بفعل تقادم الزمن وانهيار منظومة القيم، على اعتبار أن هذه النخب تمثل الوجه الآخر للنظام الرسمي العربي..؟!
للموضوع صلة