د .عرفات الرميمة
بدأ النقد الجدي للعقل الغربي ولنمط الحضارة الغربية، مع ظهور فلسفة ما بعد الحداثة .
فقد نقد رواد تلك الفلسفة الفكر الغربي ونمط الحياة الغربية، وعملوا على تقويض وهدم أسس الحداثة التي تباهى بها العقل الغربي، وكأنها نهاية التاريخ بالنسبة لهم بحسب تعبير فوكوياما .
فقد أعطت فلسفة الحداثة الغربية قيماً مطلقة لمفهوم الليبرالية ومفهوم العقلانية، وجعلتهما بمثابة الإجابات المطلقة التي تعمل على حل كل مشاكل البشر الحياتية والفكرية، وهذا ما حشر الحداثة في مجال ذهني ضيق، ولم تسمح للثقافات والنظريات الأخرى والشعوب المختلفة بوجود إيجابي فاعل، تلك الحلول المطلقة التي أدعتها الحداثة تكسرت على يد البطالة والإحباط والشح المادي والمعنوي والانسحاب الشعبي والتفكك الاجتماعي الذي ضرب عميقاً في المجتمع الغربي، الذي لم يجد في مقولات الحداثة عن العقلانية والليبرالية والمركزية الثقافية حلولاً لمشاكله، مما جعل الحداثة تقف عاجزة عن الجواب، وكان لا بد لما بعد الحداثة أن تنسف أسس الحداثة وتقوض مفاهيمها، إذا هي أرادت الحياة والاستمرار، وتقديم نفسها بديلاً عن الحداثة .
أكدت فلسفة ما بعد الحداثة: أن التجارب المعاشه أثبتت أن عصر الحداثة بمفاهيمه عن العقل والعلم والحرية والتقدم والنزعة الإنسانية قد انتهى فعلاً ، نظرا لإخفاقاته في الوصول إلى النتائج التي بشر بها، وأن ما بعد الحداثة هي مرحلة تحضير لقيام مجتمع جديد يقوم على أسس جديدة مغايرة لأسس الحداثة. لقد غرقت الحداثة في الأحلام التي لم يتحقق منها شيء، وما بعد الحداثة كما يرى أحد المفكرين ” هي الحداثة الخالية من الأحلام والآمال التي مكنت البشر من احتمال الحداثة . لقد غالت الحداثة بإعلائها من شأن العقل وجعله مركزاً تدور حوله كل الأفكار ، فهو معبود الحداثيين وطريقهم الوحيد الموصل إلى التقدم المادي والمعنوي المنشود” .
هدم العقلانية :
أثبت فلاسفة ما بعد الحداثة أن عقل الحداثة خان دوره ووظيفته الرئيسية وانقلب عليها، فقد كان دور العقل وسيلةً للمعرفة ، لكنه تحوّل ليصبح مجرد أداة تخضع دائماً لمقتضيات وظروف التوازن والنظام وانخرط في سيرورة الإنتاج، وكل ذلك يعني من ضمن ما يعنيه : أن الفكر أصبح خاضعاً لمعايير الصناعة والفهم هو الآخر أصبح خاضعاً ولم يعد فعالية في حد ذاته .
وهذا ما حدث في بدايات القرن العشرين ،من ظهور للفاشية في ايطاليا وبروز للنازية في المانيا ، بالإضافة إلى قيام الحربين العالمتين الأولى و الثانية وما نتج عنهما من قتل وتشريد للملايين من البشر ومن دمار للمباني وللطبيعة جراء استخدام السلاح الذري والكيمائي ، مثّل انتكاسة للحداثة ومقولاتها، وأثبت بما يدع مجالا للشك، بأن التاريخ الإنساني لم يتقدم ـ كما بشّر دعاة الحداثة ـ بل تراجع إلى الوراء وبأن العقل سلاح ذو حدين وبخاصة لمن يسيئون استخدام إنجازاته المذهلة لأغراض تتنافى مع أخلاقيات الإنسان _ بمعناه الحقيقي الإنسان في العالم وليس كما بشرت به الحداثة باعتباره أمام العالم – لقد عمل عقل الحداثة الغربي على هدم الكثير من الأفكار والمقولات التي قامت بها ولها ومن أجلها الحداثة . لقد تم إنزال العقل من على عرشه – الذي شيدته الحداثة – من خلال أعمال مفكرين عِظام استشعروا الخطر المحدق بإنسانية الإنسان ،من جراء الاستخدام غير الإنساني لفتوحات العقل، التي حولت الإنسان عينه إلى مجرد شيء من ضمن الأشياء التي يتعامل معها العقل . وكانت الطامة الكبرى التي اطاحت بالعقل والعقلانية، باكتشاف منطقة اللاشعور من قِبل عالم النفس سيجموند فرويد ( 1856ـ1939م ) لقد عمل ذلك الاكتشاف على هدم التصور الفلسفي التقليدي عن الإنسان باعتباره كائنا عاقلاً ، وتأكيده على أن العقل لا يمثل الا الجزء الظاهر من قمة جبل الجليد وما خفيّ كان أعظم ، فالعقل لا يمثل الإنسان – الا كما تُمثّل أقلية في نظام ديمقراطي – وإنما اللاشعور هو من يفعل ذلك وهو الذي يُعبّر عن نفسه من خلال أحلام الإنسان وفلتات لسانه وزلات قلمه.
إن النقد الذي وجهه مفكرو ما بعد الحداثة للعقلانية لا يرمي إلى مجرد إصلاح للعقل، وليس مجرد ترميم للمشروع التنويري فقط ، وإنما هو نقد للفكر يقوم على تفكيك مشروع العقلانية برّمته لتعرية مقاصده المفخخة بالممارسات المعتمة والأليات اللامعقولة، وبالتالي تم هدم الركن الأول من أركان الحداثة الغربية ( العقلانية ) وسوف نتحدث في المقال القادم عن هدم بقية الأسس ومن أهمها النزعة الإنسانية .