قمة سان بطرسبورغ وضعت دولها في المعطف الأصعب:هل تنخرط القارة السمراء في معادلة النظام العالمي المتعدد الأقطاب؟
قياسا بنجاح الغرب في تحقيق ما اُعتبر انتصارا على روسيا بتوسيع عضوية حلف “الناتو” إلى 32 دولة، بدت موسكو من خلال القمة الروسية الافريقية في سان بطرسبورغ انها كانت مستعدة لماراثون الاستقطابات الدولية حيث أفلحت في دفع دول القارة السمراء لتكون جزءاً من المعسكر الدولي المؤيد للانتقال إلى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب أكثر عدالة.
الثورة/ تحليل / أبو بكر عبدالله
عندما افتتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعمال القمة الروسية الأفريقية الأخيرة في سان بطرسبرغ كانت تفاصيل الصراع الجيواستراتيجي حاضرة بقوة لتحظى القمة باهتمام عالمي كونها مثلت أحد تجليات الصراع بين معسكرين دوليين يحاول الأول تكريس نظام القطب الواحد بينما يعمل الثاني بكل طاقته لدفع واحدة من أهم قارات العالم للانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
قبل واثناء القمة، كانت العواصم الغربية تترقب حجم المشاركة الافريقية في ظل تصاعد الحرب بين روسيا الغرب في اوكرانيا فيما بدا اشبه باستبيان عن مدى عن مدى نجاح الغرب في عزل روسيا وحجم القوة الروسية بعد عام ونصف من حرب الاستنزاف الدائرة في أوكرانيا، ومدى تأثير الحرب والعقوبات على طموحات الكرملين المضي بمعادلة الاستقطاب الدولي لعالم ما بعد الحرب.
وجاءت القمة الروسية الأفريقية الثانية، في ظل ظروف بالغة التعقيد تعيشها دول القارة الأفريقية التي تكبدت اضرارا كثيرة من الحرب المشتعلة في أوكرانيا، وصارت اليوم مسرحا لتنافس دولي على النفوذ زادت حدته بسبب حالة التصدع في النفوذ الغربي بخروج عدد من دول القارة من دائرة تأثيره السياسي كما هو الحال مع ببوكينافاسو ومالي وافريقيا الوسطى التي خرجت من العباءة الفرنسية الألمانية وتحولت إلى دول حليفة لروسيا قبل أن تنضم اليها نيجريا التي تعيش أصداء انقلاب عسكري أطاح بحكم الرئيس محمد بازوم الموالي للغرب.
وفي ظل الضغوط الغربية التي حاولت منع دول القارة الأفريقية من المشاركة في القمة، أحرزت موسكو نجاحا لافتا في حشد 49 دولة أفريقية من أصل 54 قياسا بـ43 دولة كانت شاركت في القمة السابقة 2019م، ما القى بالشكوك على مدى نجاح الغرب في عزل روسيا، وهو الموقف الذي عبّر عنه الرئيس بوتين في ختام القمة عندما أكد أن “قادة الدول الإفريقية أظهروا إرادة سياسية واستقلالا وتوافقا مع روسيا على تحدي النظام الاستعماري ومحاولات القضاء على القيم”.
غير أن ما قاله الرئيس بوتين لم يكن معبرا عن الواقع تماما، فمستوى التمثيل في القمة لم يكن متوازنا مع مستوى المشاركة إذ لم يتعد عدد الرؤساء المشاركين في القمة 17 رئيس دولة، وتمثيل أدني لبقية الدول بين 4 نواب رؤساء ورؤساء حكومات ونوابهم ووزراء خارجية وصولا إلى تمثيل على مستوى السفراء، ما عكس حجم التنافس الغربي الروسي في سباق الاستقطابات الدولية على مستوى القارة الافريقية.
قمة المكاسب
على أن نسبة المشاركة في القمة الأخيرة كانت قياسية، إلا أن الدول الأفريقية لم تشارك فيها بشكل مجاني، فقد حضرت وفودها المشاركة إلى سان بطرسبورغ حاملة ملفات عدة تصدرتها الرؤية الافريقية للحل السياسي للحرب في أوكرانيا، والمخاوف من أزمة الأمن الغذائي التي تهدد استقرارها بعد الانسحاب الروسي من اتفاقية حبوب البحر الأسود، وأكثر منها طموحاتها للتعاون والشراكة مع روسيا في البنية التحتية والتعاون التجاري ومجالات التكنلوجيا والطاقة والبيئة والدعم العسكري.
كان واضحا أن القيادة الروسية استجابت هذه المرة لأكثر مطالب الدول الأفريقية المشاركة وهو ما عبرت عنه التعهدات الروسية بدعم جهود دول القارة للتغلب على مشكلة نقص الغذاء وتعويض دول أفريقيا عن الحبوب الأوكرانية في ظل تعليق العمل باتفاقية الحبوب في البحر الأسود وتعزز الاستقرار السياسي ومحاربة الإرهاب والحد من انتشار التطرف استنادا إلى الرؤية الروسية التي ترى أن تحقيق الأهداف الاقتصادية غير وارد في ظل انتشار ظاهرة التطرف.
وقد منحت الاستجابة الروسية لهذه المطالب نتائج القمة زخما سياسيا واقتصاديا ، بعد إعلان موسكو الغاء ديون على الدول الافريقية تناهز الـ 23 مليار دولار، وتوريدها نحو 10 ملايين طن من الحبوب للدول الأفريقية خلال النصف الأول من العام الجاري، وعزمها مواصلة هذا الدعم مع تقديم الحبوب لـ 6 دول افريقية بشكل مجاني فضلا عن إعلان موسكو منح الدول الافريقية مساعدات جديدة لمحاربة الأوبئة، تضاف لحوالي 1.5 مليار روبل قدمتها موسكو لهذا الغرض وتعزيز الشراكة الاقتصادية في مجالات التبادل التجاري وتطوير البنية التحتية والتعامل بالعملات الوطنية، ضمن برنامج العمل المشترك المقرر أن يستمر حتى العام 2026.
وفي حين أفلحت القمة الروسية الافريقية في إعادة صياغة العلاقات بينها ودول القارة الافريقية بما منح دول القارة مزايا اقتصادية مهمة في الشراكة الاقتصادية لمواجهة التحديات التي تواجهها، فقد خلصت القمة إلى نجاحات جيوسياسية مهمة لروسيا بتعزيز التواجد الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي لروسيا في دول القارة السمراء والحصول على دعم افريقي للتوجهات الروسية في التصدي للعقوبات أحادية الجانب، والعمل على تخفيفها واكثر من ذلك ما حملته الوثيقة الختامية للقمة بشأن اتفاق روسيا والدول الإفريقية على “المطالبة بتعويضات عن الأضرار الناجمة عن السياسة الاستعمارية وتعزيز إعادة الممتلكات الثقافية”.
صراع جيواستراتيجي
لم تكن موسكو الوحيدة المنخرطة في معادلة الاستقطابات وحرب النفوذ الدولية الجارية حاليا في افريقيا فهناك مشاريع مشابهة تديرها أطراف دولية عديدة بما فيها الصين والهند وتركيا والدول الأوروبية وكوريا الجنوبية، واليابان، غير أن موسكو نجحت خلال القمة الأخيرة في استثمار ظل ضعف الدور الغربي في دول القارة السمراء، والآثار الكارثية التي تكبدتها الدول الأفريقية من جراء حرب أوكرانيا، للدفع بهذه الدول نحو المعسكر الجديد المطالب بنظام عالمي متعدد الأقطاب.
والتحرك الروسي نحو القارة السمراء الغنية بالموارد الطبيعية، جاء في خضم صراع عسكري وجيواستراتيجي محتدم بين روسيا مع الغرب الذي وجه كل إمكانياته لإنهاك روسيا في حرب أوكرانيا وعزلها دوليا بسلاح العقوبات، واستهدف إحداث اختراق جزئي يعزز فرص موسكو في المناورة السياسية مع الغرب لفترة أطول وهو ما حدث فعلا.
يعزى ذلك إلى أن التحرك الروسي نحو افريقيا بدا هذه المرة متناغما مع الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعيشها دول القارة وما تعانيه من تجارب مريرة مع الغرب وسياساته التي تسببت في اهدار موارد دول القارة وإبقائها تحت طائلة الفقر رغم الموارد الهائلة التي تمتلكها، بما جعلها تنظر إلى الحفاء الغربيين بوصفهم قوى استعمارية بمقابل نظرتها للانفتاح على روسيا بكونه فرصة ثمينة من شأنها احراز تغيير إيجابي في معادلاتها الداخلية من طريق برامج شراكة وتعاون استراتيجية قائمة على المنافع المتبادلة تمنح القارة الافريقية ما تحتاجه للنهوض وتجاوز التحديات.
توجهات جديدة
في ظل التوقعات باستمرار غرق روسيا في مستنقع الحرب الأوكرانية المدعومة غربيا ربما لسنوات قادمة، صار واضحا أن تحقيق انتصار على الجبهات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية صار أولوية لا تقل عن أوليات الحرب، بما يخفف عنها ضغوط العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية، ويمكنها من إحداث اختراق في تفكيك سياجات نظام القطب الواحد.
وقد راهنت موسكو كثيرا على القمة الروسية الافريقية الثانية، لكسر العزلة الدولية وتعزيز حضور بلاده في افريقيا من خلال المزايا الاقتصادية وصفقات الحبوب أو من خلال صفقات التسليح والدعم التنموي لدول القارة التي تعاني أزمات اقتصادية وأمنية كبيرة.
ذلك ما فسر المزايا الاقتصادية والأمنية الهائلة التي قدمتها روسيا للدول الأفريقية بإلغائها نحو 23 مليار دولار من ديون الدول الافريقية وتزويدها باحتياجاتها من الحبوب والإبقاء على ممرات الحبوب الروسية مفتوحة نحو دول القارة وتقديم مساعدات للرعاية الصحية بقيمة 1.2 مليار روبل.
يضاف لذلك تعهد موسكو بتطوير قطاع الطاقة، وتأمين المعدات العسكرية وغيرها من صور الدعم التي مثلت رسالة طمأنة لدول القارة الافريقية بأن روسيا جادة في مساعيها جعل الدول الأفريقية شريكا أساسيا ومحورا مهمًا في النظام العالمي الجديد مستقبلا، أو” مركز قوة جديد” كما عبر عن ذلك الرئيس بوتين.
هذه التوجهات بدت متناغمة مع أهداف القمة التي سعت إلى إنتاج مستوى جديد نوعيا للشراكة القائمة على المنافع المتبادلة يمكنها دعم الدول الافريقية لمواجهة التحديات من خلال التعاون الشامل والمتساوي مع هذه الدول التي بدأت كذلك بتبني سياسة جديدة في علاقاتها الدولية قائمة على مبدأ تنويع الشركاء الدوليين.
وهذه السياسة ظهرت للعلن بامتناع العديد من الدول الأفريقية التصويت على القرارات الأممية الصادرة ضد روسيا، ما جعل موسكو تخطو خطوات متقدمة معها طالما وهي ستدعمها في قيادة عالمية للانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
تحديات على الطريق
النجاحات التي حققتها موسكو خلال هذه القمة، لا تعني أن الطريق صار معبدا لروسيا بمعادلة النفوذ الدولي بالقارة الافريقية، فهناك دول لا تزال تخضع للنفوذ الغربي، بل أن بعضها ترى في الحضور الروسي في القارة الافريقية يمثل تهديدا حقيقيا لأمنها واستقرارها.
يشار في ذلك إلى الدول الافريقية المجاورة لمالي وبوركينافاسو ونيجيريا، والتي تعاطت بتوجس مع الموقف الروسي الذي بدا متعاطفا مع العسكريين المنقلبين على السلطات الحاكمة، وصار قادتها يرون السلطات الانقلابية فيها تهديدا لاستقرارهم.
وهناك أيضا دول افريقية تسعى للتقارب مع موسكو للهروب من قرارات الحظر الدولية المفروضة عليها لتوريد الأسلحة مثل جمهورية افريقيا الوسطى التي كان رئيسها فاوستين أرشانج تواديرا طلب المساعدة الروسية للتغلب على حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة.
وكثر الدول الافريقية تشعر أنها وضعت في منعطف الطرق الأصعب، ففي حين أنها تخشى ردة الفعل الغربية التي يمكن أن تزعزع استقرارها، فإنها تسعى لاستثمار اللحظة الفارقة بالتقارب مع موسكو لتحقيق مكاسب هي أحوج ما تكون اليه في ظل الأزمات التي تعصف بدول العالم أجمع.
والمرجح أن تتسم الخطوات القادمة بالحذر، من خلال دفع روسيا نحو مسار تقليدي للمشاركة التعاونية الاقتصادية والشراكات العسكرية التقليدية من خلال التدريب والإمداد بالمعدات والأسلحة، مع تمسكها بمواقها الرافض لأن تكون طرفا في حرب باردة جديدة، أو أن تصبح بيادق في صراع دولي على النفوذ.
وأكثر ما تأمله الدول الإفريقية هو زيادة التعاون مع روسيا في مجال التنمية السيادية الحصول على إمدادات الغذاء ونقل التكنولوجيا وتطوير البنى التحتية وإنتاج الطاقة وهي صفقات تبدو اليوم متاحة، إذا اعتبرنا أن افريقيا ستكون المتنفس الوحيد لروسيا من العقوبات الدولية.
لكن الأمر لن يخلو من مواقف سياسية تسعى روسيا لجني ثمارها مستقبلا، من خلال الدور المحوري الذي ينتظر أن تلعبه في ملف الأمن الغذائي في دول القارة السمراء المهددة بأزمة غذائية عاتية خصوصا بعد انسحاب روسيا من اتفاق التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، الذي لوح بأزمة غذاء عالمية ستكون افريقيا أكثر المتضررين منها إن بانعدام سلاسل الإمداد أم بارتفاع أسعار السلع الغذائية المرتبطة بالحبوب والتي قد تقود إلى تأجيج الضغوط السياسية على أكثر أنظمة الدول الافريقية.
ولأن أهداف السياسة تبدأ بميدان الاقتصاد، فإن أي تطور في العلاقات الاقتصادية الروسية الافريقية سيمنح روسيا نفوذا أكبر في دول القارة السمراء لكنه بالمقابل سيضعها أمام منعطفات سياسية واقتصادية وأمنية مفتوحة على كل الاحمالات.