قد تكون عملية التمرد الأخيرة التي هزت الدولة الروسية قبل أيام، قدمت مكاسب للرئيس بوتين الذي تمكن من إخماد التمرد دون سفك دماء، وعزز حالة الاطمئنان لديه من خصومه السياسيين والعسكريين في الداخل إلا أن التداعيات المحتملة لما حدث تبقى تحديات كبيرة، ما فترض تغييرا جوهريا في سياسة بوتين تجاه تفاعلات الدخل الروسي وقوه المؤثرة، بعد أن قادة هذه الأزمة إلى هز مكانته داخليا وخارجيا.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
اجتياح قوات فاغنر العسكرية لمدينة روستوف الروسية يوم السبت الماضي، وإعلان قائدها يفغيني بريغوجين من هناك التوجه إلى موسكو، أحدث هزة سياسية وأمنية بداخل روسيا تجاوزت بمخاوفها كل ما تعرضت له روسيا من ضغوط خلال الفترة المنقضية في الحرب التي تخوضها موسكو مع الغرب في أوكرانيا.
ورغم التهديد الذي شكلته قوات فاغنر على امن روسيا، بالنظر إلى قوامها البالغ 25 ألف جندي من قوات النخبة ذات الخبرة العالية، إلا أن موسكو تمكنت من تطويق الأزمة، خلال ساعات قليلة، في ظل تساؤلات جابت عواصم العالم عما إن كان ما حدث حقيقياً أم مناورة روسية لكشف الأقنعة داخليا وإخماد الغام تحت الرماد، أو لجر حلف “الناتو” إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.
والأزمة مع قوات فاغنر لم تكن مفاجئة للقيادات العسكرية الروسية التي تخوض مواجهات كلامية عنيفة مع قائد قوات فاغنر منذ بدء مشاركتها الجيش الروسي عملياته الخاصة في أوكرانيا، لكنها شهدت مؤخرا تطورا بعد اتهام بريغوجين للقوات الروسية ووزير الدفاع الروسي بقتل عدد كبير من مقاتلي فاغنر من الخلف بما سماه “عار” لا يمكن أن يمحى سوى بإعدام وزير الدفاع بالساحة الحمراء.
ساعات حاسمة
كان واضحا أن قوات فاغنر استهدفت الزحف نحو مدينة روستوف والسيطرة على بعض منشآتها الحكومية توجيه رسالة حازمة للحكومة الروسية، وليس السيطرة على المدينة أو اتخاذها منطلقا للتمرد المسلح، فالمشهد كله كان يشير إلى توجيه رسالة على الطريقة الهستيرية المعرف بها يفغيني بريغوجين، ثم العودة، لكن رد الفعل الروسي الغاضب أربك الترتيبات وأشعل أزمة أفضت إلى وساطة قادها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو انطلاقا من صداقته القديمة مع قائد قوات فاغنر.
تمكن لوكاشينكو بعد حصوله على موافقة من الرئيس بوتين، من اقناع بريغوجين سحب قواته واعادتها إلى ثكناتها، مقابل حصوله على ضمانات امنه شخصي بالنفي إلى بيلاروسيا مع إسقاط التهم القضائية عنه وعن قواته.
وخلال ساعات نهار يوم السبت الماضي اتسمت التحركات الروسية الرسمية بالسرية لكنها سرعان ما ظهرت إلى العلن بعد نشر قوات الجيش الروسي وحدات من الحرس الوطني في نطاق العاصمة ليطل بعدها الرئيس بوتين على شعبه بخطاب حازم وصف ما جرى بأنه تمرد عسكري.
الرئيس بوتين الذي ظل يتجاهل التجاذبات بين بريغوجين وقادته العسكريين في وزارة الدفاع وهيئة الأركان، بدا متألما ومتفاجئا من التمرد الذي وصفه بأنه “طعنة في الظهر تريد دفع البلاد نحو الفوضى والحرب الأهلية” لكنه بدا في المقابل حاملا لقرار الحل لحاسم بإنهاء التمرد بأسرع وقت معلنا أن القوات المسلحة الروسية تلقت أمراً بتحييد المتمردين.
ولم يمنح بوتين قائد شركة فاغنر أو داعميه المحتملين في الداخل، خيارات كثيرة، بل وضعهم أمام خيارين إما العودة عن التمرد أو السحق، وهو ما عبّر عنه بوصفه التمرد “تهديداً مميتاً لدولتنا ولنا كأمة وستكون أفعالنا للدفاع عن الوطن من مثل هذا التهديد وحشية”.
مؤشرات حقيقية
لم يخل مشهد الأزمة الروسية الأخيرة من الحديث عن نظرية مؤامرة قادها الرئيس بوتين بمشاركة قائد قوات فاغنر لكشف ما يخبئه حلف “الناتو” من سيناريوهات قد تقوض روسيا في حال حصول اضطرابات داخلية أو لكشف أقنعة الخيانة من الداخل الروسي.
واستندت هذه الفرضيات إلى معطيات عدة منها عدم منطقة وجود مخطط بالتمرد بالنظر إلى محدودية عدد قوات فاغنر التي لا تتجاوز 25 ألف جندي قياسا بجيش روسي قوامه يزيد عن مليوني جندي، وعدم اعتراض الجيش الروسي لقوات فاغنر خلال تحركها من الخطوط الامامية في أوكرانيا نحو مدينة روستوف، وغياب قادة الجيش عن تفاصيل الأزمة وكذلك الصفقة التي تم بها حل أزمة التمرد بصورة سلمية أتاحت لقائد قوات فاغنر الهروب من السجن أو الملاحقة القضائية.
لكن معطيات الأزمة تؤكد أن ما حدث كان حقيقيا، فقوات فاغنر روسية وهي تقاتل إلى جانب الجيش الروسي في الأرض الأوكرانية وحققت مؤخرا انتصارات كاسحة في باخموت، وتحركها نحو بلدة روستوف القريبة من الخطوط الأمامية لجبهة الحرب لا يمكن اعتباره تمردا مسلحا من جانب الجيش الروسي، ولذلك تمت العملية دون أي اعتراض من جانب الجيش الروسي.
وطبقا لذلك دخلت قوات فاغنر بأسلحتها الثقيلة على مدينة روستوف وانتشرت في شوارعها دون أن تواجه أي مقاومة من الجيش الروسي في هذه المدينة التي تعد في الواقع مركز عمليات عسكرية روسية.
والتقديرات التي ذهبت إلى ان ما حدث كان تكتيكا روسيا أراد فيه بوتين الكشف عن الخونة في الداخل الروسي من الطبقة السياسية أو العسكرية، بدت ساذجة، فبالون اختبار كهذا له مخاطر شديدة ويصعب السيطرة عليه، في حال كان السيناريو أن تبدأ القوات المتمردة إعلان عملية تمرد في منطقة صغيرة، تقودها إلى حرب شوارع في المدن، وتنتهي بدعم عسكري من قيادة الجيش.
وما ينفي ذلك هو حجم المناشدات التي أعلنها الكرملين ووزارة الدفاع الروسي لمقاتلي الشركة، بالتراجع والنأي عن المشاركة في مغامرة إجرامية وتمرد مسلح أكثر من ذلك اصدار السلطات الروسية قرارات بإعلان حالة الحرب على الإرهاب وهي حالة لا يمكن اتخاذ قرار بشأنها ما لم تواجه الدولة تهديدا حقيقيا.
وبالمقابل كانت تصريحات بريغوجين تؤكد أن ما نقوم به قواته ليس انقلابا عسكريا وإنما مسيرة لتحقيق العدالة حيال ما اعتبره فوضى ولحل قضية ما سماه “الخونة والمجرمين الذين اهانوا روسيا، بعد مقتل عدد من جنوده بنيران روسية، فضلا عن تأكيداته بأن تحرك قواته ليس موجها ضد الجيش ولن تعيقه في عملياته العسكرية في الأراضي الأوكرانية.
وأكثر من ذلك أنه ظهر في لقطات فيديو مجتمعا مع نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف والنائب الأول لرئيس GRU لهيئة الأركان العامة الفريق فلاديمير أليكسيف في مقر المنطقة العسكرية الجنوبية في روستوف بعد اجتياح قواته للمدينة.
فرضية الدعم الخارجي
يصعب التكهن أن أجهزة مخابرات غربية قدمت المساعدة لـ”بريغوجين” لإعلان تمرد مسلح، إذ لا يصعب توقع أن تدعم الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة مليشيا عسكرية غير نظامية حتى لو كان هدفها الإطاحة بنظام الرئيس بوتين الذي تتمنى الإطاحة به، لكون العبث في دولة نووية مثل روسيا يمكن أن يفتح أبواب جهنم على كل دول العالم.
ومن الواضح أن كثيراً من مقاتلي فاغنر لم يكن لديهم علم مسبق بما يخطط له قائدهم بريغوجين، حيث أن طبيعة عملهم تقتضي تنفيذ الأوامر فورا أيا كانت، دون أي فرصة لفهم ما يدور، وهو الأمر الذي تغير نسبيا لدى بعضهم غداة وصولهم إلى مدينة روستوف وإعلان بريغوجين التوجه نحو موسكو، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن العديد منهم طلبوا لمساعدة للعودة بأمان بعد ادراكهم أنهم كانوا أدوات لتمرد مسلح على الدولة الروسية.
وشخصية بريغوجين المضطربة على انها حققت نجاحا رهيبا في تأسيس شركة فاغنر العسكرية الناشطة حاليا في العديد من دول العالم، إلا انها غير قابلة للتلاعب بها من جهات غربية طالما قاتلها في أوكرانيا ودول عدة، لكنه ربما يكون استدرج عندما تعرضت قواته لضربات من الخلف، لم تصدر أي تأكيدات بأنها نيران روسية.
تنازلات وتداعيات
حتما قدم الرئيس بوتين في هذه الأزمة تنازلات لم يصدقها الشعب الروسي قبل شعوب العالم، لكنه أدار الأزمة بحنكة حالت دون اقحام قوات الجيش الروسي في حرب ثانية مع قوات فاغنر والتي كان يمكن أن تقود إلى حرب أهلية وفوضى يصعب السيطرة عليها.
وهذه التنازلات لم تكن بلا طائل، بل كانت حاسمة وترجمت عمليا في اليوم التالي حيث أفاق الروس على عمليات انسحاب هادئة من مدينة روستوف وتوجهوا إلى معسكرات ميدانية بينما رفعت سلطات المقاطعة القيود التي كانت أعلنت اليوم السابق على حركة المرور، وكأن شيئا لم يحدث.
لا شك أن الاتفاق الذي رعاه الرئيس البيلاروسي كان يعني نهاية درامية لقائد قوات فاغنر، الذي سيغادر المشهد في روسيا للأبد وهو ثمن الخطأ الفادح الذي ارتكبه في الزحف نحو مدينة روستوف واعلانه اجتياح العاصمة موسكو، كما أن قوات فاغنر لن تعود لشكلها السابق، وربما تعود تحت مسميات أخرى تخضع فيها كل أنشطة الشركة لوزارة الدفاع الروسية.
وتبدو السلطات الروسية قد حسمت مستقبل الشركة، فهي لن تجازف بتفكيك الشركة كونها تحتاج اليها في الوقت الراهن خصوصا خارج الحدود، والمرجح أن تعيد السلطات الروسية هيكلة الشركة وأعادتها إلى العمل بصورة سريعة دون احداث تصدعات بداخلها، مع معالجة الاختلالات السابقة بوضعها تحت إشراف مباشر لوزارة الدفاع الروسية في أي عمليات تتم على أراضيها.
لكن المشهد لن ينتهي عند هذا الحد، إذ أن هناك تداعيات كبيرة في المستقبل القريب، في تعزيز قوة التيار القومي الروسي المناهض لسياسة بوتين، استنادا إلى القضايا التي اثارها بريغوجين عن مقتل عشرات الآلاف من الجنود الروس والجمود الذي تعانيه مؤسسة الجيش الروسي وغيرها من القضايا التي ستظل أصداؤها تلاحق الرئيس بوتين لشهور وربما لسنوات بما قد يكسب الشكاوى التي عبر عنها بريغوجين صفة المشروعية.
ومن جانب آخر فإن هذه الأزمة هزت صورة الرئيس بوتين داخليا وخارجيا، وهو أمر قد يؤثر على مشهد الصراع الحاصل بين التكتل الوطني والليبراليين في روسيا والذي ظل الرئيس بوتين يتعاطى معه بإمساك العصا من المنتصف طوال الفترة الماضية.
ولا شك أن بوتين كان يدرك أنه وضع بهذا التمرد أمام خيارات صعبة للغاية، لكنه أدار الأزمة بذكاء شديد، بإقصاء بريغوجين وانهاء شبح الجيش الموازي، دون سفك دماء، أو اضطرابات كانت ستكون لها تداعيات شديدة الخطورة على الأمن الروسي.
وعندما اختار أصعب الحلول وضع الشعب الروسي أمام حقيقة واحدة وهي حرص الرئيس على مصلحة روسيا والشعب الروسي قبل مصلحته الشخصية.
ولعل بوتين كان يدرك أن هذا الخيار ستكون له عواقب على مستقبله السياسي، حيث أنه سيفقده الكثير من شعبيته، كما سيفتح الطريق لتحركات قادمة من الخصوم والخونة السياسيين والعسكريين في الداخل لتنفيذ تمرد أو انقلاب عليه.
وقد شاهد الروس تعاطي بعض النخب العسكرية والسياسية مع هذه الأزمة، بدعوتهم إلى الحل السلمي وعدم اقتتال الأخوة، دون تنديدهم بالتمرد أو إعلان الدعم للرئيس بوتين، وهو تعاطٍ أفصح عن أزمات داخلية مستفحلة، كما أفصح عن نخب يصعب الاعتماد عليها في أزمات كالتي تواجهها روسيا اليوم.