سخر الله لنا هذا الكون وجعله مهيأ للإجابة على أغلب أسئلتنا العقلية؛ بل حتى على تطلعاتنا الروحية، جعله وواسعاً ومفصلا تماما ليكون ساحة واسعة للجمال والتأمل والتقرب لله والوصول لحقيقة عظمى هي أن وراء هذا الكون خالق ودود، عزيز وقوي، لا يحتاج لأي أحد، بينما كل المخلوقات تحتاج إليه وتهلك دون رعايته ، ولازال وراء هذا الكون قدرة مطلقة تفوق ما قد وصلت إليه أي عبقرية عصرية ، وتأتي المشيئة الثانية وهي الأعظم: هي حكمة الله في تركيب هذا الإنسان الذي يتحرك نحو الحياة وهو مازال صغيرا في رحم أمه يركض ويصله طعامه بعناية فائقة دون أن يتعب أو تستنفذ طاقته، وحتى تستقبله الحياة يشتد عوده ليمضي عمره وهو باحثا عن حياة مأمولة وهدف منشود يريد أن يعود للأمان الذي كان يحسه وهو في بطن أمه وشتان بين ما كان وما سيكون في قادم أيامه المتعبة.
ويتضح مصيره تواليًا مع العبور والتريث والفرح والحزن، تارة يقوى وأخرى يتعثر ومع صفو الصبر يقل ارتاجفه واستناده، ينخفض صوت بكائه بعدما كان يصرخ بكل ما أوتي من قوة حينما كان طفلا مدللاً بين حنايا أمه، الآن صار كبيرا وبمقدوره مسح دموعه بنفسه ودون أن يصل لما يريده حتى ، يكبر بتجاربه وليس بازدياد أيامه المكتوبة، يتعب كثيرا ليصل لهدف صغير جدا، ويضحي غالبا لكي يحصل على راحة عمرها دقائق، يقترب منه شبابه ويحظى بدخوله العام الأربعيني، الأجمل في نظري أن يصل المرء وهو بكامل جهوزيته لاستقبال أقدار الله بحب، مهما تنامى وقعها من الألم، هو حريص على إتمام رسالته التي مكث أيام وسنين؛ كي يحصل على نتيجة مرضية وقبول ذاتي ومجتمعي، وتنتظره بعدها الشيخوخة، و يزيد توقه لمعرفة المزيد ننضج كثيرا فيستوحش هذا النضج الماثل فينا إلى أن يجد نفسه تائها بكل ما قد تعلمه واكتنزه من خبرات، وقدرات، يرنو كثيرا ويصل لمرحلة الرضا، وكم يرتجي من الضعف أن يمهله ساعة من العافية أو ساعة من الراحة أو حتى ساعة من الآمان، ليس هو ضعفا بالحقيقة بل ذروة القوة حينما يدرك المرء أنه ضعيف جدا أمام قدرة الله ومشيئته، وقويا جدا لمواجهة صعاب الحياة بطريقة فريدة وبمفرده دون الاستناد لأي أحد .
إن هذا هو التناقض الملفت الذي تلألأت صفاته، في محاور الكون وكينونة الإنسان معا، فكما كانت صورة الكون مختلفة في تعاقب الليل والنهار وتتابع الشمس والقمر واختلاف البحر واليابسة، هذا كله انعكس بداخل قلب الإنسان وكون صورة اختلاف كبيرة في البناء الإدراكي لهذا المخلوق الذي هو أنت وأنا وهم، جميعنا نكبر وقد توارثنا دقة الكون وتناقضه في رحاب نفوسنا بوعي وبدون وعي، نتجهز بعد كل وعي وهدف وحلم لنغدو هاربين من كل معروف، طمعا في رؤية المجهول وقد فقدنا طاقة كبيرة من جسدنا، امتثالا لطموح أكبر وأي شيء تراه يشبع الإنسان لا شيء بالطبع، الكون بكله هو صورة صغيرة لما هو معمور في السماء والغيب.
ومازلنا نلهث بعد كل حادثة وموقف قوي لنرى أي درس جديد صنعته الحياة بنا وأي شيء جديد سيتم فقده، ومع محاسن الصبر صار الفقدان أو الواصلين إلينا والماكث لدينا ، وبنفس الطريقة لازال الفكر العصري يبحث عن حياة خارج كوكبه مفتقدا لعمره عن ظهر قلق، ولو كانت الرؤية مازالت فيه حسية مبرمجة بالتصور العقلي وتأخذ من عافيته لكنها شافية نوعا ما لكل ما نريد أن ندركه، وليس هذا إلا للمشتاق الذي حوى قلبه منزلة راقية من السمو المعرفي بالله، وتتجلى المعرفة الربانية على قدر الاجتهاد و المسير، شوقنا لمعرفة أقدارنا ، وتوقنا للفوز وعدم الإخفاق في تأدية رسالتنا الإنسانية المطلوبة أمام الله أولاً، وأمام أنفسنا ثانيًا، وأمام من نحبهم أخيرًا؛ حتى يوافينا الأجل.