لعبة القوى المدنية لكسر التوازنات تؤجج الصراع :

أزمة السودان.. انقلاب تحت السيطرة أم حرب أهلية?

بصورة مفاجئة انتقل السودان المثقل بالأزمات الاقتصادية من حافة التسوية السياسية إلى مربع المواجهة العسكرية في انقلاب منظم قادته قوات الدعم السريع على قيادة الجيش السوداني بدت أشبه بزلزال بالنسبة للشارع الذي كان ينتظر توقيع الاتفاق النهائي لخارطة «الاتفاق الإطاري» التي أجمعت عليها المكونات السودانية خيارا أخيرا للخروج من نفق الأزمة.

الثورة / أبو بكر عبدالله

لم تكن أزمة المواجهات بين الجيش الوطني السوداني بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) مفاجئة، فالتوتر كان سائدا بين الفصيلين خلال الأيام السابقة للمواجهات بعد الخلافات حول آليات دمج قوات الجيش أدت إلى إرجاء التوقيع على الاتفاق النهائي للاتفاق الإطاري الذي نص على تشكيل حكومة مدنية لفترة انتقالية مدتها عامان تنتهي بانتخابات.

وتصاعدت حالة التوتر بصورة كبيرة يوم السبت الفائت حيث أفاق الشارع السوداني على وقع اشتباكات مسلحة في أرجاء مختلفة من العاصمة الخرطوم، بعد تحريك قوات الدعم السريع كتائبها نحو مقر إقامة رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق البرهان والقصر الجمهوري ومقر قيادة القوات المسلحة ومطار العاصمة ومقار الإذاعة والتلفزيون لتندلع المواجهات في أنحاء مختلفة بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها سلاح الطيران الحربي.

هذه التطورات وضعت السودان الغارق في متاهات تسوية سياسية واضطرابات منذ العام 2021م، في منعطف خطير أشاع الذعر لدى الشارع السوداني من مخاطر الانزلاق نحو الحرب، وسط تهديدات متبادلة، عبر عنها قائد الجيش الفريق البرهان بقراره حل قوات الدعم السريع، وإعلانها قوة متمردة، ووصفه التصعيد الذي حدث بأنه انقلاب، بالتزامن مع تصريحات أعلنها قائد قوات الدعم السريع أعلن فيها فرض قوات السيطرة على المرافق السيادية والمطارات ونيته اعتقال الفريق البرهان وتقديمه للمحاكمة.

انقلاب كامل

يمكن فهم أزمة المواجهات المندلعة اليوم بالنظر إلى تركيبة الجيش السوداني، ففي مقابل الجيش النظامي، ظلت قوات الدعم السريع عبارة عن مليشيا شعبية، تتمتع باستقلالية إدارية ومالية منذ أسسها الرئيس المعزول عمر البشير عام 2013م تحت مسمى «قوات الجنجويد» لمواجهة أزماته في إقليم دارفور وجنوب كردفانا وولاية النيل الأزرق، قبل أن تتحول في العام 2017م بناءً على قانون أصدره البرلمان، إلى قوة شبه نظامية مستقلة عن الجيش تحت مسمى «قوات الدعم السريع».

ظلت هذه القوات مستقلة تحت هيمنة عائلة دقلو التي تمتلك امبراطورية اقتصادية كبيرة في السودان، لكن مساندتها للانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكم البشر عام 2019م، غيرت الموقف منها، بعد أن كانت توسعت إلى بالتسليح الثقيل وصارت تنتشر في سائر أقاليم الدولة السودانية، ناهيك عن امتلاكها ارتباطات إقليمية ودولية، وهي القضايا التي طالما عبر الجيش الوطني عن قلقه حيالها وطالب بدمجها بقوام قوات الجيش لتلافي أي أزمات بين الفصيلين قد تدفع بالسودان نحو مهاوي الحرب.

بعد الإطاحة بنظام البشير، حاولت قيادة الجيش الوطني فرض حالة انسجام مع قوات الدعم السريع وتولى قائدها محمد حمدان دقلو منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وأيد الخطوات التي اتخذها قائد الجيش بحل الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021م، لكن هذه الصيغة فشلت في الصمود أمام استحقاقات الدولة الحديثة والإصلاحات المطلوبة للانتقال إلى المسار الديموقراطي.

ومنذ اليوم الأول للمواجهات بدت قوات الدعم السريع وكأنها تقود انقلابا خُطط له منذ وقت مبكر، خصوصا وأنها شنت هجمات مباغتة استهدفت محاصرة واعتقال رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان والسيطرة على القصر الجمهوري ومقر قيادة القوات المسلحة السودانية والمطارات وكذلك مقار الإذاعة والتلفزيون التي خططت قوات الدعم السريع للسيطرة عليها لإذاعة بياناتها الانقلابية.

ورغم أن الأيام السابقة للانقلاب شهدت توتراً واضحاً بين المكونات السياسية والعسكرية على خلفية تأجيل التوقيع على الاتفاق النهائي للمرة الثانية إلا أنه كان واضحا أن قيادة الجيش انتظرت إلى حين شن قوات الدعم السريع هذه الهجمات في مسعى لكشف ضلوع قوات الدعم السريع في محاولة انقلابيه بالسيطرة على مؤسسات الدولة وشنت تاليا هجمات مضادة استعادت فيها أكثر المواقع السيادية.

معطيات مدنية للانقلاب

من غير الممكن فصل التداعيات العسكرية الحاصلة في السودان عن تداعيات المسار السياسي الذي فرض مسارا مختلفا في ظل حالة الاستقطاب المدني التي استمرت بوتيرة عالية خلال فترة المفاوضات وحتى بعد توقيع الأطراف السودانية الاتفاق الإطاري في ديسمبر الماضي، وهي الحالة التي انتقلت من طورها المدني الناعم إلى الاستقطاب العسكري.

والحقيقة التي يحاول السودانيون اليوم تجنب مواجهتها هي أن تقاطعات الصراع السياسي الذي طال أمده بتشعباته المحلية وامتداداته الإقليمية والدولية هي من نقلت الأزمة إلى مربع الصراع المسلح بين المكونات العسكرية المنقسمة، التي وجدت بعض الأطراف المحلية والدولية أن تحريكها يمكن أن يغيّر المعادلات القائمة.

والظاهر حتى الآن أن بعض القوى السياسية الطامحة إلى العودة للحكم والتي طالما حركت الشارع السوداني في تظاهرات مناهضة للعسكر وتطالب بإبعادهم عن العملية السياسية، وجدت نفسها في الآونة الأخيرة منقسمة ومضطرة لتوقيع « الاتفاق الإطاري» الذي أعاد التوازن النسبي للعملية السياسية، دون أن يضمن لهذه القوى العودة للحكم وابعاد الجيش من المعادلة السياسية.

ومن غير المستبعد خلافات المكونين العسكريين بشأن آليات الدمج، لعرقلة المضي بخارطة الطريق المرسومة الموقع عليه في ديسمبر الماضي، كونه لم يحقق طموحاتها السياسية.

هذا الأمر كان واضحا عندما أفصحت بعض قوى تحالف الحرية والتغيير عن أفكار جزافية لتفكيك الجيش الوطني بحيث تكون قوات الدعم السريع نواة للجيش السوداني الجديد بدلا من القوات المسلحة السودانية التي تتهمها بالانقلاب على المسار الديموقراطي والانحياز للنظام السابق.

كان الأمر واضحا عندما أصرت على تنفيذ كل ملفات التسوية المنصوص عليها في الاتفاق الإطاري في وقت واحد، بما في ذلك ملف دمج قوات الجيش وتجاهلها تحذيرات الخبراء من مخاطر إثارته على نحو ارتجالي في ظل غياب حكومة مدنية وسلطة منتخبة يمكن أن يخضع لها كل الأطراف بقوة القانون والدستور.

وكان التداعي الأكثر وضوحا في المشهد السياسي مؤخرا هو التقارب الذي قادته قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) مع قوات الدعم السريع والذي أفصح عن طموحات بأن تجعل من هذه القوات ظهيرها العسكري في المواجهة مع قيادة الجيش.

ورغم سرية هذه التوجهات إلا أنها برزت إلى الواجهة في لعبة تبادل أدوار أفصح عنها تغيير مواقف قوات الدعم السريع من تأييد إجراءات رئيس مجلس السيادة بحل الحكومة الانتقالية السابقة إلى تأييد مطالب قوى الحرية والتغيير وتأكيدها الدفاع عن عودة الحكم المدني فيما بدا صفقة سياسية مع قوى الحرية والتغيير لقاء حصولها على امتيازات عسكريه في المستقبل تجعل من قوات الدعم السريع بديلا للجيش الوطني.

هذا الأمر دعا البعض إلى عدم استبعاد أن تكون القوى المتشددة في تحالف الحرية والتغيير قد تورطت في تشجيع قوات الدعم السريع لتنفيذ انقلاب عسكري على قيادة الجيش، أملا في أن تقود هذه الخطوة إلى إدانة قوات الجيش الوطني باختلاق صراع مسلح، بما يضع الشارع السوداني والقوى الإقليمية والدولية أمام خيار وحيد وهو الضغط من أجل تعجيل تسليم السلطة للمدنيين، وعزل الجيش عن المشهد السياسي المأزوم.

من يفوز أخيرا؟

بعد التداعي المسلح الذي خيم على السودان، فإن أكثر ما يشغل بال الأوساط السودانية والعربية والدولية هو مدى قدرة الجيش أو قوات الدعم السريع على حسم الصراع في فترة قصيرة، يمكنها أن تصنع واقعا جديدا على الأرض يجنب السودان الانزلاق إلى مهاوي الحرب الأهلية.

وحتى اليوم (الثالث) واستنادا لمعطيات عدة، يمكن القول إن الانقلاب الذي قادته قوات الدعم السريع قد فشل أو أنه في طريقه إلى الفشل.

وما حدث في الأيام الثلاثة الأولى يكشف عن مخطط كان يقضي بشن عملية عسكرية واسعة ومفاجئة، تُفضي إلى اعتقال قائد الجيش، والسيطرة على المرافق السيادية وشل عمل الحكومة الحالية، وإذاعة بيان الانقلاب عبر وسائل الإعلام الرسمية، بما يفرض معادلة جديدة تحت ذرائع الحكم المدني.

لكن هذا السيناريو لم يحدث، بعد أن وجدت قوات الدعم السريع مقاومة شرسة من قوات الجيش التي بدت وكأنها لم تكن مستعدة لمثل هذه العمليات، وهو ما أكدته التصريحات الأولى لقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان الذي بدا غير مستوعب لما يدور خارج أسوار مقر إقامته في الخرطوم وإعلانه دخول وحدات عسكرية من خارج العاصمة إلى الخرطوم للتعامل مع الموقف.

وما يؤكد فشل الانقلاب هو أن قوات الجيش تمكنت خلال ثلاثة أيام من تطويق قوات الدعم السريع في أنحاء مختلفة من العاصمة سوى بعض المناطق في وسطها، بعد تصديها لمحاولات قوات الدعم السريع السيطرة على مقر قيادة الجيش واستعادتها السيطرة على مطار الخرطوم ومقار الإذاعة والتلفزيون التي عاودت البث في اليوم الثالث، ناهيك عن اقتحامها مقر القصر الجمهوري ومحاصرة وحدات قليلة من قوات الدعم السريع بداخله.

وأكثر من ذلك فقد تمكنت قوات الجيش مستعينة بالطيران الحربي من تقليص مساحة المعارك والقضاء على وحدات قوات الدعم السريع المتواجدة في ولاية النيل الأزرق ومناطق أخرى في الشمال والغرب والشرق، بعد غارات ألحقت بقوات الدعم السريع خسائر كبيرة فضلا عن اغتنامها عتاداً عسكرياً من وحدات الدعم التي قررت الاستسلام لقوات الجيش دون قتال.

أما الحكومة السودانية التي كان يتوقع أن تنهار في الساعات الأولى من الانقلاب المسلح فقد بدت متماسكة وتمارس مهامها بفعالية تحت سلطة الجيش.

ماذا بعد؟

حتى نهاية اليوم الثالث، استمرت المعارك بين الجانبين في محيط مقر قيادة الجيش وكذلك في القصر الجمهوري الذي تحاصره وحدات الجيش لإرغام ما تبقى من قوات الدعم السريع على الاستسلام، في حين لا تزال الأمور ضبابية في مناطق أخرى تشهد صراعا مسلحا في مناطق متفرقة شمالا وشرقا وغربا وجنوبا.

وعلى أن قيادة الجيش بدأت تستعيد زمام السيطرة، إلا أنها في طريقها لأن تفرض حكما عسكريا على سائر المدن السودانية، بما في ذلك الإعلام الرسمي الذي خضع لسلطة التوجيه السياسي والمعنوي التابع للجيش.

ولا يبدو أن هناك مجالا لعودة طرفي الصراع إلى طاولة المفاوضات بعد إعلان قائد الجيش الفريق البرهان حل قوات الدعم السريع والتعامل معها كقوة متمردة، وتأكيده عدم التفاوض معها وعدم وقف القتال إلا بعد اعتقال قادة التمرد وتقديمهم للمحاكمة، بالتزامن مع اعلان قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، نيته الاستمرار في القتال لحين اعتقال البرهان وإعادة الحكم للمدنيين.

ومن غير المرجح أن يحسم الجيش السوداني المعارك مع قوات الدعم السريع خلال أيام قليلة، بالنظر إلى ما تمتلكه قوات الدعم السريع من إمكانيات وموارد وما يُنتظر أن تحظى به من دعم سياسي من القوى المدنية المناهضة لقيادة الجيش.

واستنادا إلى مؤشرات القوة البشرية التي تملكها قوات الدعم السريع والتي تقل عن قوات الجيش السوداني بحوالي 100 ألف جندي، وكذلك بيانات السلاح الثقيل الذي تمتلكه، فإن المرجح أن تتمكن من خوض حرب طويلة لأشهر قد تخلط أوراق المعادلة في ظل غياب الضمانات باستمرار استقرار الجيش الوطني.

والمرجح أن يواجه الجيش الوطني السوداني مشكلات في حال لم يتمكن من حسم المواجهات خلال أيام قليلة، خصوصا وأن ذلك قد يفتح الطريق لأطراف خارجية للتدخل بدعم أطراف الصراع، ما قد يطيل أمد الحرب ويجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات.

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا