هل من توبة في شهر التوبة..؟! ( الأخيرة )

طه العامري

أحب في ختام هذه السلسلة أن أتوقف أمام تداعيات المشهد الوطني، الذي تعتمل فيه إرهاصات حافلة بالشعارات الإسلامية، مشفوعة بمواقف متباينة من هذه الإرهاصات، مواقف توزعت بين متحمس لها حد التعصب، وبين رافض ومشكك بها حد التعصب أيضا..!
وبداية أقول إن لا احد يمكنه أن يشكك بإيمان الشعب اليمني الذي دخل الإسلام برسالة من رسول الله صل الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يكتفي أجدادنا الأوائل بدخول الإسلام طواعية بل وبحماس التفوا حول رسول الله وحملوا راية الإسلام وكانوا جنودا أوفيا وطأت أقدامهم قارات العالم يحملون راية التنوير، وبالتالي لن نجد يمنيا واحدا يرفض أو يعترض على شريعة الله وتطبيق سنة رسوله المصطفى.. ولكن..!
ولكن هل تلبي (المسيرة القرآنية) التي نتحدث عنها حاجاتنا ومتطلباتنا الدينية والدنيوية وتحكم بما أنزل الله وأمر به، وبسيرة رسوله وسنته؟
هل تحمل المسيرة مشروعا تجديديا ( للحاكمية) وليس للدين، فدين الله واحد ولا يمكن تحديثه أو تجديده، ومن يتحدث بلغة تجديد أو تحديث الدين هو جاهل وغارق بجهالته، لكن ما هو مطلوب هو العودة لقيمنا الدينية ولشريعة الدين كما انزلها الله لا كما أرادها رموز ( الحاكمية والمتسلطين) الذين اتخذوا الدين ذريعة لتطويع المسلمين ولتحقيق مصالحهم الخاصة والانتصار لمشاريعهم الخاصة ذات الهوية السياسية والمذهبية!
منذ قرون مؤغلة وشعبنا المسلم والمؤمن يخضع لاجتهادات الرمزيات الدينية وتعاليمها والتي في غالبيتها فصلت الدين على مقاسها وبما يضمن ويحقق لها مصالحها وينتصر لأهدافها الدنيوية في الحكم والسيطرة، إذا ما أدركنا أن كل الخلافات التي نشبت بين المسلمين بعد وفاة الرسول الكريم، نشبت بسبب السلطة والسيطرة والنفوذ، ومن أحق بها من غيره، مع أن الله والرسول تركوا الأمر في هذا الجانب تحديدا (شورى) بين المسلمين، غير أن هذا لم يحدث، وما حدث أن (الشيطان) دخل بين المسلمين من (سقيفة بني ساعدة) ولا يزل حتى اليوم يقف في وجه وحدة وتوحد المسلمين، وتوحيدهم الذي بدوره خضع لاجتهادات فقهية وراحت أطرافه تراكم ثقافات أسطورية ما أنزل الله بها من سلطان ولم يحتكم المسلمون للدين ولا لله ورسوله بل احتكموا لمنطق دنيوي واجتهادات دنيوية حرص أصحابها على الانتصار لقناعتهم متجاهلين كل ما أمر به الله ورسوله، بل تجاهلوا حتى( القرآن الكريم) وما جاء فيه وهو كتاب الله ودستور المسلمين في كل زمان ومكان، لكن هذا لم يحدث وما حدث أننا نعيش اليوم أحداثاً وتداعيات نجتر الكثير من أسبابها من ماضي اسلافنا وهو الماضي الذي لا نحاسب عليه ولا يجب أن نستحضره لأنه يتعلق بأمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وبالتالي يفترض أن نعيش حياتنا وفق متطلبات اللحظة الزمنية والمكانية وننظر لجوهر ديننا وقيمه ونعمل بها ونجسد أخلاقيات رسولنا المصطفى ونلتزم بها.. وان كان العدل الاجتماعي هو معيار الانتماء لديننا ومقاومة الظلم هو هدف ديننا، ولأن ديننا غايته هي تنوير عقول وقلوب البشر وإشاعة قيم المحبة والتسامح والعدل الاجتماعي بكل مظاهره، ويركز ديننا وتعاليم رسولنا المصطفى على الوحدة بين المسلمين وعلى الحكم بالعدل دون الانتقاص أو التهميش والحوار المسؤول والمشورة والتوازن والقياس إلى آخر المفاهيم التي حرص ديننا على الإشارة إليها والتأكيد على أهميتها، فديننا لم يأت لنا بالتشريعات والقوانين المنظمة لحياتنا الخاصة والعامة، بل جاء بكل ما يهم حياتنا من القوانين والنظم والتشريعات والعلوم المعرفية وحتى التربية الأخلاقية والسلوكية المتصلة بالحياة اليومية للفرد والجماعة في المجتمع الإسلامي أكد وشدد عليها ديننا..!
بيد أن ما يجري اليوم وما نشاهد من سلوكيات تمارس تحت راية (المسيرة القرآنية) يجعلنا نذكر إخواننا المسؤولين عن هذه المسيرة أن هناك ممارسات غير مقبولة ومناهضة لتعاليم الدين وقيمه وتسامحه وهو دين الرحمة والمحبة وأيضا تتعارض بعض هذه الممارسات مع قيم وأخلاقيات رسولنا الخاتم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام..!
وإن كنا نرفض تطرف بعض المتشددين باسم الدين من جماعة (الوهابية) إلى جماعة (الإخوان المسلمين) إلى (القاعدة، وداعش) وأي مسمى يرفع راية الدين لتحقيق أهدافه الخاصة والانتصار لمشاريعه الخاصة، فإن الواجب أن نذكر إخواننا في قيادة( المسيرة القرآنية) بأن هناك أخطاء يجب مراجعتها لمن يريد أن يحكم ويقدم نموذجا لحكم وطني ذي صبغة دينية شريطة أن لا يحاول فرض خيارات بذاتها على كل المجتمع، وان لا يحاول أن يشكل المجتمع بكل مكوناته وفق أطياف هو فارضها، وأن لا يرى في السلطة والقوة وسيلة لفرض خيارات أيا كانت تتعارض مع قيم وثقافة اجتماعية مكتسبة، بذات القدر عليه معرفة أن العصر ليس (عصر الخلفاء الراشدين وليس عصر بني أمية ولا بني العباس) بل هو عصر مختلف تماما في أزمنته ومكانته وبمظاهره وقيمه وثقافته وتحولاته الحضارية، وبالتالي يجب مراعاة كل هذه الحقائق وأخذها في الاعتبار إن كانت هناك نوايا جادة لبناء وطن وتنمية وتوحيد شعب والسعي لرفاهيته، ولذلك يفترض أن نحترم اتباع المذاهب ونحترم ثقافتهم وتراثهم وطقوسهم ومعتقداتهم، طالما احترم كل هؤلاء النظام والقانون، وأن نكرس قيم التعايش الاجتماعي وفق عقد اجتماعي يتكفل بحقوق وواجبات الجميع..!
الأمر الآخر أن نفصل بين دور الدولة ومؤسساتها وقوانينها وتشريعاتها وبين انتمائنا (المذهبي) ومعتقداتنا الدينية، لأن الدين لله والوطن للجميع وقيم التعايش الاجتماعي وضع مداميكها سيدنا المصطفى في ( وثيقة المدينة) والي اليوم ينسب له صلوات الله وسلامه عليه مصطلح (الدولة المدنية!!)..
إن مهمة المسلم هي قدرته على التعاطي مع كل الظواهر الحضارية واستشراف آفاق التقدم والتطور وامتلاك كل عواملها وأدواتها من خلال إعمال العقل والتفكير والإبداع وابتكار كل ممكنات التعايش والحياة المستقرة وهي عوامل لن تأتي عبر استحضار الماضي وأدرانه، بل تأتي عبر الانفتاح الواعي ومن خلال تحويل التنوع الفكري والثقافي وحتى المذهبي إلى مصادر للطاقة الإبداعية والتقدم الحضاري، إن هذا التنوع ساهم في بقاء اليمن محافظة على دينها وقيمها وتراثها الحضاري الإسلامي، وهي التي كانت حاضنة لكل المذاهب والتيارات الفكرية التي برزت في مسارنا الإسلامي وإليها لجأ في زمن ( بطش الطغاة) بالعلماء والمفكرين المسلمين الذين تركوا مكة والمدينة والقاهرة وبغداد والكوفة ودمشق وهربوا بعلمهم وأفكارهم وثقافتهم أبي اليمن التي احتضن شعبها كل أولئك الرموز فكانت بمثابة وآحة الحرية وطوق النجاة لكل من واجههم ظلم الطغاة وبطش جلاديهم، ألم يأتها (الإمام الهادي لاجئا) بعد واقعة (كربلاء) ؟ وإليها لجأ (الناصر الأطروشي) وهو من جاء إلينا بفكر (الإمام زيد) والذي أصبح مذهبا إسلاميا أتبعه ملايين من أبناء اليمن وحتى اليوم؟
وإلى اليمن هرب أنصار (المعتزلة) بفكرهم وتراثهم الثقافي الذي أسسه ووضع لبناته (واصل بن عطاء) الذي كان أيضا استاذ وفقيه ومعلم (الإمام زيد).. وكثير من رموز الفكر الديني وعلماء الدين تركوا مدن وعواصم الإسلام وأتوا لليمن لينجوا فيها بأفكارهم وثقافتهم وحياتهم من بطش حكام وولاة الاستبداد..!!
لكل ما سلف تستحق اليمن أن تعيش التنوع وحياة الاستقرار، دون أن يفرض عليها طيف بذاته ولا تشريعات بذاتها تعكس رغبة أصحابها في الهيمنة وليس في بناء دولة ومجتمع إسلامي قوي وموحد وذي سيادة واستقلال وكرامة..!
اللهم إني بلغت.. فإن توفقت فلله الحمد والشكر، وإن أخطأت فإن الله غفور رحيم وهو غافر الذنوب وقابل التوبة وبه استعين وعليه أتوكل.. وصلاة الله وسلامه على سيدي رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.

قد يعجبك ايضا