عودة الأطراف المقصية إلى المعادلة السياسية تنذر بأزمات:

هل يتجاوز السودانيون عقبات الاتفاق النهائي للتسوية؟

أربعة أشهر مضت منذ توقيع أطراف الأزمة السودانية الاتفاق الإطاري في ديسمبر الماضي، إلا أن هذه الفترة لم تكن كافية لإذابة جليد الخلافات بين المكونات العسكرية والمدنية والتي تفرعت بخلافات على مستوى كل مكون على حدة، أدت إلى تأجيل التوقيع على اتفاق التسوية النهائي لتبقى مطالب الشارع السوداني بوضع حد للأزمة العاصفة بالبلاد منذ العام 2019 في خانة الخيارات المؤجلة.

الثورة / أبو بكر عبدالله

رغم التفاؤل الذي أشاعه اتفاق الأطراف السودانيين على تدشين المرحلة النهائية للاتفاق الإطاري الموقع، بتوقيع اتفاق نهائي يفضي إلى تشكيل حكومة مدنية تدير البلاد خلال فترة انتقالية مدتها عامان تنتهي بانتخابات، إلا أن التفاؤل بدأ يتلاشى مع تعثر التوقيع على الاتفاق النهائي وتأجيله مرتين، في ظل تباعد بين المكونات العسكرية والمدنية حول الاستحقاقات الرئيسية للاتفاق الإطاري ينذر بانهياره والعودة بالسودان إلى مربع الأزمة الأول.

حتى مطلع أبريل الجاري كان الشارع السوداني ينتظر أن تقدم المكونات العسكرية والمدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري على إنجاز الاتفاق النهائي الذي سيدشن مرحلة جديدة، غير أن خلافات عميقة أفضت إلى تأجيل هذه الخطوة إلى السادس من ابريل الجاري، تلاها قرار آخر بتأجيل التوقيع إلى أجل غير مسمى.

وثمة قضايا خلافية لا تزال قائمة بين الأطراف السودانية، يتصدرها ملف إصلاحات الجيش والأمن، وقضايا تفكيك النظام السابق والعدالة الانتقالية، ومراجعات اتفاق جوبا للسلام فضلا عن قضية إقليم شرق السودان التي برزت مؤخرا كتحد كبير يهدد بنسف كل التوافقات التي تحققت في الفترة الماضية.

عودة للبدء

سعت العملية السياسية التي شاركت فيها النخب السودانية من المكونات المدنية والعسكرية وبعض الوسطاء الدوليين والاقليميين خلال الفترة الماضية إلى إيجاد حل للأزمة وكللت بتوقيع الاتفاق الإطاري والتوافق على مسودة الدستور الانتقالي كأساس للحل، وهما الخطوتان اللتان رحلتا قضايا خلافية أساسية، على أمل أن تقود التفاهمات الأولية إلى توافق شامل غير أن القضايا التي تم ترحيلها عادت إلى الواجهة كتحديات تهدد بنسف كل ما تحقق دفعة واحدة.

وقد تم خلال الفترة الماضية تجاوز الكثير من الخلافات، كما تم اتخاذ العديد من الخطوات الإيجابية لتوقيع الاتفاق النهائي لكن هذه الجهود وقفت أمام معضلة إصلاح الجيش والأمن خصوصا وأن الاتفاق الإطاري الموقع في ديسمبر الماضي، نص على دمج وحدات الجيش التي يقودها رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يقودها نائبه الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) في جيش وطني موحد دون تحديد آليات الدمج.

ورغم شروع الأطراف بتنفيذ هذه الخطوة من خلال لجنة عسكرية مشتركة شكلت سابقا لهذا الغرض إلا أن القضية ظلت تراوح مكانها، بسبب الخلاف حول المقترحات التي قدمتها الهيئة المشتركية بتشكيل هيئة قيادية مكونة من 4 قيادات من الجيش الوطني و2 من قيادات قوات الدعم السريع، وسط خلافات أخرى بشأن الفترة المطلوبة لإنجاز خطوة الدمج وتبعية هيئة القيادة.

وعلى أن الخلاف حول هذا البند كان بين المكونين: العسكري ممثلاً بمجلس السيادة الانتقالي والقوى المدنية في تحالف الحرية والتغيير، إلا أن الخلافات انتقلت إلى المكون العسكري، حيث رأت قيادة الجيش إمكان إنجاز هذه الخطوة خلال فترة عامين تنتهي بانتهاء الفترة الانتقالية على أن تكون الهيئة القيادية تحت رئاسة القائد العام للجيش ورئيس مجلس الأمن، الفريق عبد الفتاح البرهان، فيما تتمسك قوات الدعم السريع بإضافة طرف سابع في هيئة القيادة، تحت رئاسة رئيس الدولة المدني القادم كما طالبت بفترة زمنية أطول تمتد لعشر سنوات لإنهاء عملية الدمج بشكل يحقق الأهداف المتوخاة.

تقاطعات ومخاوف

لم تكن قضية دمج الجيش السوداني بعيدة عن التجاذبات الحاصلة بين المكونات المدنية والعسكرية التي أنتجتها انتفاضة 2019، والمكونات السياسية والقبلية الموالية للنظام السابق، وهي التقاطعات التي أثارت مخاوف من أن يقود استمرار الانقسام في صفوف الجيش إلى مشكلات تهدد استقرار البلاد.

وتتهم أوساط عسكرية سودانية بعض جنرالات الجيش بعرقلة هذه الخطوة على خلفية ولائها للحركة الإسلامية وفلول النظام السابق، بما يحول الجيش السوداني إلى كيانات عرقية ما يتنافى مع أهداف الوصول إلى جيش قومي موحد للسودان يراعي التنوع السوداني ويحفظ للدولة السودانية استقرارها.

ويزداد الأمر تعقيداً في كون قوات الدعم السريع تشكلت بموجب قانون خاص جرى إقراره من البرلمان في العام 2017 ولها علاقات إقليمية ودولية، كما أنها تمتلك أسلحة ثقيلة وتنتشر على نطاق واسع في جغرافيا الدولة السودانية، ناهيك عن امتلاكها موارد اقتصادية خاصة.

وثمة إشكاليات أخرى على صلة بالأسس التي تكونت عليها قوات الدعم السريع حيث تشكلت في العام 2013 من قبائل وأفراد تدربوا على عقيدة قتالية مختلفة عن عقيدة الجيش السوداني، ما يجعل من الصعب المضي قدماً في دمجها بصورة سريعة دون خطط طويلة وقصيرة المدى ودون وجود ثقة متبادلة بين قائدي الجيش والدعم السريع تسهل المهمة.

وهناك حاجة أيضا إلى تشريعات يفترض أن تكون جزءا من عملية إصلاحات شاملة لجميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك دمج القوات التابعة للحركات المسلحة ضمن قوات الجيش وتحت رعاية حكومة مدنية تستطيع ان توفر التشريعات والضمانات والتمويلات المالية للازمة لذلك، خصوصا وأن الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا لم تتحول بعد إلى كيانات سياسية.

قضايا اساسية

وقضية توحيد الجيش ليست الوحيدة التي تقف اليوم عائفا أمام توقيع الاتفاق النهائي للتسوية في السودان، فهناك أيضا قضية تفيك النظام السابق، والعدالة الانتقالية ومراجعات اتفاق سلام جوبا، الموقع مع الحركات المسلحة عام 2020 وكذلك ملف شرق السودان.

ورغم أن قضية تفكيك النظام السابق، للرئيس المعزول عمر البشير تحظى باتفاق جميع الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، وعقدت له الأطراف السودانية في يناير الماضي مؤتمرا للخروج بتوصيات كان يتوقع ان تضم إلى الاتفاق السياسي النهائي بما في ذلك استعادة أموال وأملاك عناصر النظام السابق، إلا أنها اليوم تواجه تقاطعات وخلافات وخصوصا مع بعض المكونات المدنية والإسلامية والقبلية التي انخرطت ضمن ملفات قبلية وسياسية بمطالب غير بعيدة عن مطالبها الاساسية برفع الاقصاء الكامل الذي فرض على النظام السابق ومشاركته في أي عملية سياسية قادمة.

وتأتي قضية «العدالة الانتقالية» تاليا في سلم التهديدات المحتملة، حيث لا تزال من أكثر القضايا الخلافية في ملف الأزمة كونها ترتبط بمظالم تعود إلى انقلاب 1989 الذي قادته الجبهة الإسلامية في السودان ونصبت فيه الرئيس السابق عمر البشير رئيسا للسودان وتشمل ضحايا الحروب بولايات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان والتي استمرت عشرات السنوات والمظالم المسجلة بعد الإطاحة بنظام البشير وحتى تاريخ توقيع الاتفاق الإطاري في ديسمبر 2022.

يضاف إلى ذلك قضية المراجعات التي تطالب فيها بعض الأطراف لاتفاق سلام جوبا الموقع الحركات المسلحة، عام 2020، بوصفه تحديا كبيرا أمام أي تسوية محتملة.

وعلى أن الحركات المسلحة الموقعة صارت بموجب الاتفاق، مشاركة في السلطة السياسية في الخرطوم، إلا أن الاتفاق لم يكتمل تنفيذه ما دفع بعض القوى السياسية إلى تبني دعوات لمراجعته خصوصا وانه لم يشمل كافة الحركات المسلحة وعلى رأسها “حركة تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد نور والحركة الشعبية” بزعامة عبد العزيز الحلو، ناهيك عن رفض بعض الحركات المسلحة الاتفاق الإطاري.

ورغم أن السودانيين استغرقوا كثيرا خلال الأشهر الماضية في مناقشة هذه الملفات، إلا أن الخلافات حولها ظلت قائمة في حين أن التوصيات والتوافقات بشأنها لم تُصغ حتى اليوم بطريقة تضمن دمجها في الاتفاق النهائي المؤجل.

تعقيدات حرجة

أثبتت تجربة الحوارات السابقة أن أكثر ما يجيده السياسيون السودانيون هو إعادة تعريف الأزمات السياسية على طريقة تعريف الماء بالنار، ففي حين تشهد ملفات الأزمة المعقدة دوامة خلافات تعرقل توقيع الاتفاق النهائي الذي يمكن ان يعيد السودان إلى المسار الانتقالي بحكومة مدنية، تبدو الأطراف السياسية مصرة على الذهاب بعيدا لتفصيل توافقات تتجاهل بعض الفاعليين الذي تسبب اقصائهم عن المشهد السياسي في تعثر جهود التسوية بل وإبقاء أسباب الأزمة متفاعلة دون حلول.

هذا ما حدث تماما في الخلافات التي تم تجاوزها سابقا، وعادت اليوم للظهور مجددا على شكل تحديات حالت دون تنفيذ الاتفاق الإطاري وعرقلت توقيع الاتفاق النهائي، الذي كان ينتظر أن يتيح فرصا لإنهاء الأزمة بتشكيل حكومة مدنية لمرحلة انتقالية مدتها عامان وتنتهي بإجراء انتخابات عامة تضع السودان على طريق التحول الديمقراطي.

يشار في ذلك إلى العودة المفاجئة للإسلاميين وأنصار النظام السابق الذين تم إقصائهم من المشهد السياسي خلال السنوات الماضية، في إطار حملة واسعة في الشرق وولاية النيل الأزرق تطالب بمشاركة النظام السابق في التسويات السياسية كما تدعو إلى مواجهة التداخل الأجنبي في الشأن السوداني، فضلا عن مطالبها بإطلاق سراح الرئيس المعزول عمر البشير وأعوانه المعتقلين على ذمّة القضية الخاصة بانقلاب 30 يونيو 1989، وتلويحهم بإسقاط توقيع الاتفاق النهائي حول العملية السياسية عبر إغلاق إقليم شرق السودان.

ولا يختلف الحال مع مواقف الحركات المسلحة وبعض القوى السياسية التي تتبنى مواقف مناهضة لمشروع التسوية السياسية بعد تبني مجلس نظارات البجا القبلي ذي الحضور الفاعل في الإقليم مطالب تدعو إلى طرح قضاياه على الطاولة كشرط لوصول الحكومة المدنية إلى السلطة ومنحها الشرعية التوافقية لبلوغ اهداف لمرحلة الانتقالية.

وعلى أن حالة الاقصاء التي يعانيها أنصار النظام السابق تبدو حديثة العهد، فإن المشكلة لدى قبائل شرق السودان تبدو عتيقة للغاية، فهذه القبائل تشعر أنها ظلت لعقود مهمشة من قبل النظام السابق، وحملت السلاح ضده بين 1994 ـ 2006، في حين استمرت سياسة التهميش بحقها حتى بعد الانتفاضة التي أطاحت بحكم البشير.

ويحمل هذا المكون القبلي اليوم مواقف متشددة تتساوق مع قوى النظام السابق المقصية من المعادلة السياسية، بعدم الاعتراف بسلطات الحكومة المركزية في الخرطوم، ورفض تعيين حكومة مؤقتة لشرق السودان، ناهيك ورفعت مؤخرا سقف مطالبها إلى المطالبة بحق تقرير المصير، ورفض المشاركة في أي تسوية أو حكومة قبل إلغاء مسار الشرق الخاص باتفاق جوبا للسلام.

ومؤخرا أفصحت الحركة عن ترتيبات تقودها لإغلاق إقليم شرق السودان أو فصله عن الدولة السودانية، في حال ذهبت المكونات السياسية والعسكرية إلى توقيع الاتفاق النهائي دون الاستجابة لمطالبها.

والمطالب الأخيرة على أنها جاءت في سياق أزمة تتوالد، إلا أنها أثارت مخاوف جدية من احتمال أن يتحول اللعب بورقة انفصال الشرق إلى واقع قد يضع الدولة السودانية أمام تهديد وجودي في ظل اعتمادها الكبير على منافذها الشرقية المطلة على البحر الأحمر، ما يعزز حقيقة أن أي مرحلة جديدة في السودان لا يمكن إنجازها دون مشاركة جميع الأطياف بلا استثناء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا