جنون العاصفة 2-1

 

أحمد داوود

الإهداء
* إلى روح الشهيدة أمي، وإلى روحي الشهيدين “حسن” و”لؤي” نجلي شقيقي عبد الله صبري فارس الإعلام والكلمة، الذين استشهدوا في قصف طيران العدوان السعودي الأمريكي على حي الرقاص بصنعاء في 16 مايو 2019.
* إلى شهداء الوطن الذين ارتقت أرواحهم إلى السماء، وهم يدافعون عن وطن تكالبت عليه قوى الغزو والمرتزقة من كل حدب وصوب.
إلى أولئك الأبطال، رجال الرجال، الذين صمدوا بكل بسالة أمام ضربات الـ ” F 16″ وطائرات الأباتشي، وقهروا تحالفاً أراد لليمن الذل والقهر والعبودية والانكسار.
– 1 –
لسنوات كثيرة لم تهدأ هذه البلاد من الحروب، وفي الحروب أيضاً تحضر المآسي والآلام بكل تفاصيلها.
الدموع لم تعد حكراً على النساء فحسب، وإنما أصبح للرجال نصيب منها، ومن لم يبك في هذا الزمن مع كثرة الأهوال والمصائب فمتى يبك؟
يبكي الرجال!
نعم، يبكي الرجال!
يبكون حينما ينتشلون الأطفال الرضع من بين الأنقاض بعد الغارات اللعينة التي تلقيها طائرات العدوان بلا رحمة أو شفقة، وحين يرون الشباب يساقون إلى المحرقة بلا وعي ليقاتلوا مع الغزاة ضد الوطن، وحين يرون النازحين يجولون في الشوارع كأنهم هياكل عظمية، طالبين العون من الناس، فلا يلتفت إليهم سوى الطيبين فقط.
أما الدموع التي لا يمكن حبسها، ولا كفكفتها، وتحضر بدون استئذان، ويتبعها البكاء المرير فهي حين يتم انتشال جسد “أمك” أو “أحد أقاربك” من بين الأنقاض، بعد أن يتعربد صاروخ “سعودي” لئيم فيقصفهم وهم نيام، أو في الأسواق والطرقات، وفي قاعات العزاء والأفراح، أو في المدارس، أو في أي مكان ما.
الوطن كله يستباح، الطيران السعودي، الإماراتي، الأمريكي، الصهيوني يخترق كل شيء.
العدو يشدد الحصار المطارات مغلقة ومدمرة.
الموانئ لا يدخلها سوى النزر اليسير من الطعام والغذاء، والعالم يعلن الصمت المطبق والنظر إلينا بعيون واجفة أتتساءل الآن: لماذا يبكي الرجال؟
– 2 –
مساء الخميس – السادس والعشرون من مارس اذار عام 2015 – كان يوماً فاصلاً في تاريخ اليمن.
في ذلك المساء العليل، الدافئ في حرارته، وتحديداً بعد صلاة العشاء، كنت مع رفيقي دربي وأعز أصدقائي، الحاج “عبد الله”، الطاعن في السن، ذي الظهر المنحني، والجسم الهزيل، المكسو رأسه ولحيته بالشيب الأبيض، ومحمد أبو زيد، الصديق الوفي الذي لا يفارقني ولا ينساني ويفضلني حتى على إخوانه.
في تلك الليلة تحدثنا عن أمور كثيرة، كنا نتجول من زقاق إلى زقاق، ومن حي إلى حي في مدينة صنعاء القديمة، هذه المدينة العريقة، المزدانة بمبانيها الأثرية الفريدة، وبجمالها البهي النادر.
أضواؤها الساطعة، كانت تضفي لها لمسات تزين وجهها البديع، وهدوؤها العجيب يعطينا المزيد من التجول في أحيائها الدافئة.
قلت ممازحاً الحاج عبدالله: إنك رجل كبير في السن، والسفر قد يتعبك ولن تقوى على المسير، فالأفضل لك أن تعود إلى منزلك وتخلد في نومك.
نظر إلي مبتسماً بعد أن توقف عن المشي، ثم هز عصاً لا تبارح يده اليمني، وأراد أن يضربني بها، ثم قال لي : لا تقلق علي يا عبد الرحيم فأنا أكثركم قوة وتحملاً، وسنرى من سيتعب، أنا أم أنتما؟
نحن أصليون، عاركنا الجبال، والسهول، والأودية، في طفولتنا، ثم لا يغرك أن جسمي قد فتر، لكن لدي قوة وصلابة توازي جبل نقم هذا الذي تراه أمامك.. كان يشير بأصبعه إلى الجبل الشامخ “نقم”، المضي بالإنارات الضوئية الباهتة.
قلت في نفسي: إن الحاج عبد الله يبالغ في كلامه! وصمتنا برهة، ونحن نتمشى في حارة القاسمي بصنعاء القديمة.
الحاج عبد الله كان بالفعل قوياً رغم ظهور بعض التجاعيد على وجهه، وكان إذا أصر على فعل شيء ما فإنه ينفذه، وفي أحيان كثيرة، كان يفاجئني بقدرته على إنجاز أشياء ترهقنا نحن الشباب ولا نقدر على فعلها.
إن صنعاء القديمة لوحة فريدة أبدع الله فيها مخزوناً روحانياً لا تجده في أي مكان آخر، هكذا أخبرني الحاج عبدالله، والذي سرد لنا في ذلك اليوم كلاماً كثيراً عن هذه المدينة الحضارية العريقة، وكيف تمكن سكانها من مقاومة الغزاة الأتراك الذين حاولوا احتلالها قبل سنوات كثيرة.
قال لي بلغة حازمة وصادقة : “هذه صنعاء يا بني، عاش فيها الآباء والأجداد في سلام ومحبة لألاف السنين.. انظر بتمعن إليها، ستحدثك المباني عن تاريخها البهي، انظر إلى أسواقها، إلى سكانها، إنهم طيبون، لا تفارق البسمة وجوههم المشرقة.
كان كلام الحاج عبدالله رائعاً، وكنا حين يتحدث “بجدية” ننصت إليه ولا نقاطعه، وكأنه خطيب على منبر الجامع ونحن المصلون، فالكلام محرم أثناء الحديث الجاد للحاج عبدالله.
هو يعتز بوطنه، وانتمائه لليمن، يلبس الملابس اليمنية التقليدية، الثوب الأبيض، والكوت، وعلى رأسه “شال” أحمر يعتمره، ولحفة بيضاء على كتفه.
أما صديقي محمد أبو زيد في الأربعينيات من عمره، فكان يرتدي ثوباً أبيض وكوتا أسود، إضافة إلى جهازه الأخضر وجنبيته الصيفاني.
كان قليل الكلام، يكثر من الضحك حين يتحدث أحدنا.. إنه رجل قل أن تلد النساء مثله، ليس هناك في الحي من لا يحب محمد أبو زيد، فهذا الرجل اجتماعي بالفطرة، يساعد الناس، يواظب على الصلوات الخمس في المسجد، سخي، ويكرم الفقراء.
لمحمد أبو زيد “دكان صغير” يقع على ركن ضيق في سوق الملح بالمدينة، يبيع فيه الزبيب، واللوز، والفستق، والتمر، وكل أنواع المكسرات.
كان يقول لي دائما : “الحمد لله الذي سترني وفضلني على كثير من عباده”.
وحين كانت تشتد بي الظروف وأشعر بأن العالم قد أصبح قطعة من الفحم الأسود، وتتعاظم مصائبي، لا أجد سنداً ولا معينا لي سوى هذا الرجل الكريم.
كان كثيراً ما يقدم لي النصائح بأن أترك عادتي السيئة في التعامل مع زوجتي وأطفالي.. أنا شديد الغضب، لا أجيد المعاملة الحسنة مع زوجتي، ولا أرغب بالمكوث كثيراً في منزلي.
ليست زوجتي امرأة سيئة، ولا شريرة، إنها تحمل قلباً نقياً طيباً، أما أنا فأن اليأس والأحزان كانا يسيطران علي باستمرار، ولا أجد راحة أو لذة للحديث إلا مع الحاج عبد الله وصديقي الوديع محمد أبو زيد.
كنت جندياً في القوات المسلحة عام 2005، غير أني تركت “الجندية” بعد شجار مع أحد الزملاء على شيء تافه، كان الجميع يتوشوشون في ما بينهم ويقولون: “إنني عصبي”، ذو مزاج سيء، هم صادقون فيما يقولون: لقد كنت أشعر بذلك وكم وجهت لنفسي الكثير من الشتائم واللعنات بسبب هذه الصفات اللئيمة.
مضت ساعتان ونحن نتجول في أحياء صنعاء القديمة، تكلمنا كثيراً، ضحكنا كثيراً، الساعة الآن تقريباً تشير إلى العاشرة مساء، استأذن الحاج “عبدالله” بكل هدوء وتركنا، قال إنه يريد أن يذهب إلى منزله، فالنوم يملأ عينيه ويريد أن يستريح، ثم إنه قال لنا في ذلك اليوم مازحاً: لقد صدقتما، فأنا كبير في السن ولم أعد أقوى على المشي.
محمد أبو زيد هو الآخر غادر، افترقنا الثلاثة، وعدت إلى منزلي المتواضع في صنعاء القديمة، والمكون من غرفتين ومطبخ وحجرة متوسطة الحجم، السقف من خشب قديم، حين تهطل الأمطار، يتسلل المطر من بين الجدران والزوايا ويتبلل السقف بماء المطر، ثم لا يجد طريقاً سوى الغرفتين والمطبخ والحجرة.
في منزلي المتواضع كنت أعاني كثيراً من الصرف الصحي، وعدم وجود مجلس خاص بي لاستقبال الضيوف، لقد تشاجرت أكثر من مرة مع زوجتي التي كانت تصر بأن ننتقل إلى مكان آخر داخل العاصمة صنعاء والبحث عن سكن نعيش فيه مثل بقية خلق الله، لكنني كنت أصر على البقاء في صنعاء القديمة، فثمة شيء ما يشدني إليها، يجذبني، فأنا أعشقها، وحين يعشق المرء شيئاً فلا يمكن أن يبارحه.
لم يكن قد مضى وقت طويل على مكوثي في صنعاء القديمة، أو بالأصح بالسكن فيها، لكنني أحببتها من أعماق قلبي! أحببت حاراتها أزقتها، مبانيها المتلاصقة، القمريات
أحببت أسواقها الشعبية، والمدخل الأنيق لباب اليمن، الذي يلج الناس منه من مختلف محافظات اليمن.
وأحببت مساجدها المنتشرة في كل حي.
آه، لقد نسيت.. وأحببت أيضاً “المقشامة” أو “البستان”، الذي تزرع فيه الخضار!
لا أدري لماذا تذكرت أخي عبد اللطيف في هذه اللحظات؟
عبد اللطيف، الشاب الرائع، الممتلئ بالحماس والنشاط، قوي القامة، قوي العظام والعضلات.
هو في الخامسة والثلاثين من عمره، وهو أصغر مني بسنتين، كان يتردد علي باستمرار، محاولاً اقناعي بالعودة إلى منزل أبي الكبير الواقع في حي القادسية بصنعاء، غير أني كنت أرفض ذلك العرض، ولقد مل المسكين مني ولم يعد يعرض علي الأمر مجدداً.
يمتلك والدي “علي” عدة منازل في العاصمة صنعاء، ويعمل تاجراً في المولدات الكهربائية، ولقد كان حريصاً بأن أكون سنداً له في تلك التجارة، لكن كل جميع محاولاته باءت بالفشل.
لا زلت أتذكر تلك الليلة المشؤومة، حين قرر والدي طردي من منزله، لقد اجتمع بي وبأخي عبد اللطيف وأختي وفيه، وبدأ يصرخ بصوت عال في وجهي: أنت يا عبد الرحيم لا تنفع لشيء، لا تريد أن تكون بجانبي في التجارة، ولا تريد أن تساند أخيك عبد اللطيف، ولا تريد أن تعامل أختك وفيه معاملة حسنة.
لقد تعبت معك يا عبد الرحيم، لذا عليك أن تخرج من منزلي وتشق طريقك مثل خلق الله.
كانت أختي وفية أكثر من دافع عني في تلك الليلة، لقد توسلت إلى أبي كثيراً بألا يطردني من المنزل، لكن أبي إذا ما قرر أمراً فإنه لا يتراجع عنه بسهولة.
لم أكن أستوعب ما يدور من حولي، ولأول وهلة وجدت نفسي مضطراً للمغادرة، لكن إلى أين؟ لا أعرف.
أعطاني أبي مهلة للصباح، فخرجت مع زوجتي وبنتي وفاء -ثمان سنوات- لا ندري إلى أين؟ غير أن صديق والدي راشد تدخل وعمل كل الواجب، ولحسن حظي أنه نقلنا إلى هنا في منزله بمدينة صنعاء القديمة، وقال لي بأن أسكن فيه حتى تهدأ المشاكل والخلافات مع والدي.
لأول مرة شعرت بأن أبي يعاقبني وهو الذي اعتاد على تدليلي منذ صغري، كان يعطيني كل شيء، وإذا ما طلبت شيئاً ورفض أبي، فأنني أتحايل على والدتي-المرحومة- فتسارع هي الأخرى بإعطائي ما أطلب دون معرفة أبي.
كان يصل إلى مسامعي بين الفينة والأخرى، كلام كثير عني من قبل أفراد الأسرة، يقولون دائماً: إن تدليلي الزائد على اللزوم صنع مني شخصاً لا قيمة له، ربما كانوا محقين، وربما لا، ووالدي المسكين كان يعتصره الألم حين يسمع مثل هذه الأنباء.
كنت أيضاً أتساءل: لماذا يطردني والدي من المنزل؟ ما الذنب الذي اقترفته؟ ما الخطيئة؟ فأنا معتاد منذ زمن كبير أن يقف أبي إلى جانبي، وأن يساندني في كل شيء، ولقد علمت فيما بعد أن والدي استمع لنصيحة أحد أصدقائه، بأن يتركني أواجه متاعب الحياة لنفسي، حتى أشعر بالمسؤولية كما يشعر الرجال!
الخلود لروحك يا أمي، لو كنت باقية على قيد الحياة، لما حدث كل هذا المكروه!
كان الفقر يلاحقني باستمرار، لكن زوجتي الحنونة كانت تمتلك كثلة كبيرة من الصبر، لقد تحملت العيش معي في هذا السكن المتواضع، والأكل والشرب المتواضع، وأكثر من ذلك كانت تتحمل نزقي وغضبي وانفعالاتي الشريرة واللا مبررة أحياناً.
وجبة الغداء التي كانت تتناولها في أوقات كثيرة هي كسرة خبز يابسة، وقليل من الماء، وكم تمنت المسكينة أن تمتلك ثمن كوب شاي حار يدخل الدفء إلى جسدها.
كانت أمنيتها أن تتناول ولو يوماً واحداً وجبة غداء تملأ معدتها الفارغة من الدجاج المشوي أو اللحم مع الرز، أو أي وجبة تشبع نهمها.
أشعر أحياناً أنني لست من البشر، فأنا لا أبالي بكل هذا، ووجبة الغداء أتدبرها بشكل يومي، في المطاعم أو في منزل صديقي محمد أبو زيد، ونادراً ما كنت أتناول وجبة الغداء في منزلي المتواضع، ولم أكن أبالي هل ستأكل زوجتي وطفلتي وفاء أم لا، ولا كيف سيتدبرون أمرهم؟
كانت زوجتي تنتظرني بكل لهفة وشوق، هي تحبني كثيراً، لكنها تتذمر من انفعالاتي وغضبي المتواصلين.
في تلك الليلة التي تجولت فيها مع رفيقي دربي الحاج عبد الله ومحمد أبو زيد كنت سعيداً على غير عادتي، وبعد فراقهما عدت إلى منزلي وسلمت على زوجتي بكل هدوء، وقبلتها بحنان، وتحدثت معها ببشاشة لم تألفها من قبل.
ملامح الاستغراب كانت بادية على محياها، كأنها تريد أن تقول : ما الذي غيرك يا حبيبي؟ ما سر سعادتك؟ لماذا كل هذه النشوة؟، لكنها فضلت الصمت وعدم توجيه الأسئلة إلي، حتى لا أنهرها وأعود إلى عصبيتي المقيتة.
استلقيت على ظهري وأخبرت زوجتي بأنني مرهق وأريد أن أنام، وما هي سوى لحظات حتى دخلت في سبات عميق، ولذة نوم لم أشعر بها طيلة حياتي!

قد يعجبك ايضا