الدولة ككيان سياسي دستوري حقوقي؛ حافظ للتوازنات بين مكونات الدولة لم تعرفها اليمن؛ لا في القديم ولا في الحديث، إذا ما استثنينا تجربة اليمن الديمقراطية في قيام دولة حديثة، حتى المكونات، أو الدويلات القديمة كسبأ وحضرموت وقتبان وأوسان وأخيرا حمير؛ هذه مكونات قبيلية متغلبة، ولا يوجد في الكتابات المسندية ما يشير الى قوانين لهذه الكيانات تنظم شؤون الدولة والمجتمع، والمكتشف حتى الآن هو أخبار الصراعات والقتال والغنائم بين هذه المكونات، والنذور والقرابين للآلهة.
وفي الكشوفات التاريخية اليمنية يرجع بعض الباحثين قبيلة سبأ إلى أصول عراقية، ومنذ أن عرفت اليمن هذه المكونات وحتى اليوم لم تعرف الاستقرار في العموم، فالصراع كان هو السمة الغالبة على المكونات القبيلية اليمنية، لقد تصارعت هذه المكونات وتقاتلت، حتى أهلكت ودمرت كل ما بنته، لقد أضاع اليمنيون من عمرهم أكثر من ألف عام وهم في صراع مع الاحتلال الأجنبي؛ الحبشي والمملوكي والبرتغالي والتركي والبريطاني، وها هم بعض اليمنيين المرتزقة يقودون المستعمرين من جديد إلى بلادهم.
كانت المكونات المتغلبة تحكم إلى أينما وصلت سلطتها، حتى جاء الإسلام والاحتلال الفارسي باسطاً حكمه على اليمن، ثم اندمج الحاكم الفارسي (باذان) في التركيبة اليمنية، ودخلت اليمن في حكم قريش، وكانت أول ولاية تنفصل عن الدولة العباسية، فعادت المكونات القبلية لتأسيس حكم الدويلات.
جاء الإمام الهادي الى الحق يحيى بن الحسين، فقطع الطريق على حكم القبيلة، لكنه استخدم القبيلة كجند لحكمه.
الدويلات التي عرفها اليمن كالدولة الصليحية وما بعدها هي دويلات قبلية، فالصليحيون والزريعيون والطاهريون هم قبيلة همدانية، أما الرسوليون فهم مصريون تسلموا الحكم من المماليك.
سلطة الاستقلال عن الاتراك كانت عبارة عن حاكم فرد وليس دولة، رغم اعتماد الأئمة على عسكر القبيلة، وهذه السلطة اعتمدت في مصروفاتها على الجباية ولم يكن لها موارد مستقلة، وهي التي أسست لنظام التنافيذ والعسكر والبقاء، وكان النظام فيها أسريا دينيا كهنوتيا، وحتى الثورة أو الانقلاب الذي حدث في ٦٢ ضد الإمامة اعتمد على الخارج المصري، وعلى مشائخ القبائل، أي أنه أعاد الحكم للقبيلة برموزها المشيخية.
فالمشائخ ورثوا سلطة الإمامة، ولم يستطع حكم العسكر إنشاء نظام حديث، أو تطوير البلاد، وانشغل العسكر بالصراع فيما بينهم، والحرب مع الملكيين المدعومين من السعودية والأردن ونظام الشاه في إيران، إلى أن انقلبت عليهم القوى التقليدية.
لم يكن لدى العسكر مشروع، أو قاعدة جماهيرية تدعم الانقلاب، لذلك استدعوا القوات المصرية، وتقربوا من المشائخ والتجار.
وأخطر ما أسس له سبتمبر ٦٢ هو شرعنة القتل خارج القضاء، وشرعنة التعذيب للمعتقلين والتنكيل والاغتيالات للمواطنين، بإنشاء أجهزة تقوم بذلك العمل المشين، حتى اليوم، بل إن هذا الانقلاب قطع التطور الطبيعي لليمن، وشرعن للانقلابات اللاحقة، فغدت اليمن مسرحا للانقلابات والقتل والاغتيالات والتنكيل بالناس، فالعسكر ومن لف لفهم من المشائخ والمخبرين استهلكوا ثروات البلاد، وافقروا العباد، وصنعوا الكوارث، ثم ارتكبوا الخيانة والعمالة، وأصبحوا عبارة عن موظفين لدى أعداء البلاد، لا يقيمون وزنا للسيادة والاستقلال.