نعم الفساد صار كائناً حياً يستمد حياته من حياة السياسة التي تُسيّر عالم اليوم، وهذا لا ينبغي أن يُفهم بأنه تبرير لأي سلطة سياسية بل على العكس يُحَمِّلها كاملَ المسؤولية عن الفساد المالي والإداري، لأنها صانعة القرار كما يفترض، ولا يجوز لها أن تتذرع بأي أجندة خارجية ترسم لها سياسة كيف تكافح الفساد لأن المتضرر منه هو الشعب الذي يعاني من تغوله في كل مفاصل الحياة العامة، وبالنتيجة هو المستفيد من محاربته.
نعم الفساد كائن حي ويمكن التعرف على تاريخ ميلاده وحياته الأولى من خلال تفكيك تعريفه وعناصر تكوينه ليس باعتباره كائناً مادياً يُرى بالعين المجردة وبالذات عين الحاكم المتحكم خاصة في البلدان المتخلفة التي يتحالف فيها من يدعي احتكار الدين مع أكثر قوى الفساد عتواً ولهذا نرى أكثر الحكام فساداً أكثرهم عمىً عن رؤية كائن الفساد مهما بلغ حجمه وارتفع صراخ الناس من لهيب سياطه لأن رؤيته تعتمد على قوة البصيرة أكثر من اعتمادها على قوة البصر، والفاسدون المتحالفون لهم بصر ولكنهم يفتقدون للبصيرة، فهم يرون أبسط أخطاء من لا يواليهم موالاة الأعمى ويأبى أن يكون ضمن القطيع المسبح بحمدهم، وعيونهم كليلة عن رؤية أفظع الجرائم التي يرتكبها من يظهرون موالاتهم ومحبتهم، ولهذا نرى هذا النوع من الحكام يبحثون عمن يطوع لهم أجهزة الرقابة والعدالة لتكون خادمة لسياساتهم الهوجاء التي يعتقدون أنهم يحسنون بها صنعاً ، وهذه أكبر مصائب الحكام بالأمس واليوم وغداً، وإذا قيل لهم بأن فلاناً أكثر في الأرض الفساد والإفساد باستخدام موقعه الهام في السلطة ساءهم قول القائل وطالبوه بالدليل ولو كان فساده يملأ الآفاق وكأن من يصيح أو يستنكر مدع بحق خاص لأنهم لا يفرقون بين الحق العام والخاص وكيفية التعامل مع هذا وذاك.
لقد بلغ العلم مداه بأن المقصود هو مهندس الفساد على مستوى الدولة أو هكذا يبدو، وإذا قيل لك إنه لا يملك شيئاً فكيف يكون فاسداً؟! فيجب أن لا يغيب عن ذهنك بأن الفساد السياسي والإداري المتمثل في تعيين الفاسدين وحمايتهم واستهداف الشرفاء وإقصائهم فساد يفوق ضرره الفساد المالي والإداري، ومن البديهي بأن أي دولة لا يمكن أن تكافح الفساد إذا كان رأسها أو أي عنصر أدنى منه يملك من الصلاحيات ما يجعل منه الخصم والحكم في آن ليصبح شعاره بيت الشعر:
(وعين الرضى عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تُبدي المساوئ)
ويتحول هذا البيت إلى سياسة متبعة فذلك عين الفساد وذاته وصفته واقعياً، ومع ذلك لابد من تعريف الفساد نظرياً فما هو؟:
يعرف الفساد لغة بأنه: ضد الصلاح ففساد الشيء تلفه أو عدم صلاحيته أما في الاصطلاح فيعرف بأنه:
1- استخدام السلطة العامة لمصلحة خاصة.
2- تعيين الأقارب في وظائف عامة.
ويرتبط وجود الفساد بمفهومه العام بوجود الإنسان وبتطور الجريمة حيث كانت جريمة القتل أولى الجرائم التي ارتكبها الإنسان بحق أخيه حين قتل قابيل أخاه هابيل ، بغض النظر عن الجدل حول الحقيقة الدينية وحقيقة علم التاريخ بشأن الواقعة ، إلا أن المقصود هو أن الاعتداء على الحياة كان أول مظاهر الصراع من أجل البقاء عند كل كائن حي وجريمة القتل في أي عصر تقع في المرتبة الأولى بين الجرائم لأن حياة الإنسان أغلى ما يملك، ومع ذلك فان أساليب القتل تطورت من القتل الفردي أو الجماعي باستخدام الوسائل المباشرة المادية إلى الوسائل غير المباشرة وبشكل خيالي سواء باستغلال الوظيفة العامة للحصول على مصالح شخصية أو باستغلالها لتمكين تجار من الاحتكار أو تقديم التسهيلات لتجار المخدرات أو المبيدات الضارة المستخدمة للتسريع بإنتاج المزروعات وأبرزها في اليمن شجرة القات التي تستخدم فيها مواد خطرة لا يقف ضررها على الأمراض الظاهرة التي ينتج عن بعضها الموت السريع وإنما تؤدي إلى حالة إدمان على نفس المادة التي تغذت منها شجرة القات والى أمراض في الجينات تتوارثها الأجيال ، فهذه الجريمة الخطرة تنطوي على عدة جرائم منها جريمة فساد من أساء استخدام السلطة فسهل دخول هذه المواد بل وقام بحماية من يتاجر بها.
ومن البديهي أن الفاسد لا يمكن أن يعترف بفساده ، وليس المقصود بالإشارة التاريخية في هذه اليوميات عن قدم الفساد ووجوده في كل زمان ومكان التقليل من أهمية مكافحته ولكني فقط أؤكد باستمرار على أن الطريق الجاد والمخلص لمكافحته يبدأ بالإصلاح الحقيقي للقضاء وتمكينه بعد إصلاحه من أداء واجبه باستقلالية تامة واحترام مبدأ سيادة القانون في كل أعمال سلطات الدولة المختلفة والقطاع العام وفي مواجهة تجاوزات القطاع الخاص واستهتاره بالمصلحة العامة لأن القطاع الخاص يمكن أن يكون جزءا من منظومة الفساد المترابطة، وترشيد وإصلاح وتقويم ممارسات السلطة العامة إنما يبدأ من أعلى الهرم لا من أسفله .
شاخت الأحلام
وتعددت وجوه الموت في وطني
واتسعت صولته ومداه
فمتى تسكت أصوات المدافع
وتشرق شمس السلام غير المخاتل
ويعرف القتلة أنهم مقتولون لا محالة؟
Next Post