البردوني.. حياته وشعره

دراسة في عالم البردوني الشعري

 

 

خليل المعلمي

لقد بلغت شهرة الشاعر الكبير عبدالله البردوني أصقاع الأرض، وانتشرت الدراسات والكتابات النقدية لمؤلفاته المتنوعة في الشعر والنقد وغيرها، حتى أن الدكتور الطاهر مكي قاله عنه: إن في البردوني شموخ المتنبي وكبرياءه، وإنسانية المعري وفلسفته، وزهده، وتعاليه إنسانياً على دنايا الحياة وتوافهها، وأخذ من ابن الرومي سخريته المريرة، يواجه بها زيف الحياة في أيامنا، إنه مزيج رائع من هذه القيم التي يفخر بها الأدب العربي في مختلف عصوره.
ومن أهم المؤلفات التي تناولت حياته وشعره كتاب “البردوني حياته وشعره” من تأليف الدكتور أحمد عبدالحميد إسماعيل- أستاذ الأدب العربي في كلية الدراسات العربية والإسلامية في جامعة القاهرة، حيث يعتبر الكتاب دراسة في عالم البردوني الشعري وقراءة متأنية لإبداع فني متميز يمزج بين الأصالة والتجديد بمقدرة فنية فائقة، أما الأصالة فإنها تلوح في كل قصيدة من شعر البردوني، حيث البناء الموسيقي التراثي المقتدر الذي يؤكد أن شعر البردوني يتهادى فيه النور الذي لمسناه في شعر أبي تمام والمتنبي وأبي العلاء ووضاح اليمن ويزيد بن مفرغ الحميري وغيرهم من شعراء العربية الذين أصبحوا معالم في تاريخ الشعر الجميل.
التجديد لدى البردوني
وفي مقدمة الكتاب يؤكد المؤلف أن التجديد في شعر البردوني هو التفرد الحقيقي الذي باغتنا به هذا الشاعر، ففي الإطار التراثي، تنساب تقنيات الشعر الحديث بمذاهبه الأدبية المتعددة، على مستوى الإيقاع واللغة والأسلوب والصورة، فنلمح أبعاداً عبثية ووجودية ورمزية وسريالية، لا تضيق عنها أوزان الخليل ولا تعجز البردوني حين يرتحل بحروفه من عالمه الذاتي إلى عالم الحياة الأرحب.
ويضيف أن الشاعر الكبير عبدالله البردوني أحد الشعراء المعاصرين الذين ناءوا بثقل أمانة الكلمة الشاعرة واستطاع أن يجرّدها سلاحاً وعلاجاً وبلسماً في أمته، واستطاعت الكلمة الشاعرة أن تصوِّر الوجود والعالم والبشر والتاريخ والحياة في ذاته خلف جفنيه المظلمين، كما استطاعت أن ترسم ملامحه النفسية الغائرة، التي تتحكم في منطق الأشياء لتبني له منطقه الخاص، وتبيح له التردد والاختلاف في قضية واحدة، وهو في موقفيه صادق الحس والمشاعر، لأنه لا يصوّر الحقائق الظاهرة بقدر ما يصور أثر ترسباتها في نفسه، وكم هي كثيرة وشائكة تلك القضايا اليمنية والعربية والإسلامية.
نشأة البردوني وحياته
تناول المؤلف في الفصل الأول حياة الشاعر عبدالله البردوني، حيث استعرض نشأته ودراسته في قرية البردون بمديرية الحدا بمحافظة ذمار وتعرضه لوباء الجدري الذي أخذ عينيه وهو في سني الرابعة أو الخامسة ومن ثم انتقل بعدها إلى المدرسة الشمسية بمدينة ذمار واستقر فيها لمدة عشر سنوات كابد فيها متاعب الدرس ومكاره العيش والحنين إلى القرية وملاعبها.
ويؤكد المؤلف إلى أن اعتمال الحنين إلى الطفولة البريئة وقريته الحبيبة تتفجر ملكاته بالشعر، فبدأ يكتبه في السنة الثالثة عشرة من عمره، وبعد عشر سنوات يشق البردوني الفتى طريقه إلى صنعاء وفيها عانى كثيراً في مكابدة العيش ومصارعة الأهوال.
واستعرض المؤلف حياته المهنية التي بدأها بالتدريس في نفس المدرسة التي تخرَّج منها وإلى جانب التدريس عمل كاتباً إذاعياً يكتب للإذاعة ومن ثم عيّن مديراً للبرامج في إذاعة صنعاء، إلى جانب عمله عضواً في هيئة تحرير مجلة الجيش وعضواً في هيئة تحرير مجلة الحكمة، كما كان يكتب لصحف ومجلات أخرى كثيرة يمنية وعربية، يقول المؤلف إنه شاعر وأديب وناقد ومحرر أدبي وسياسي وإذاعي ومدرّس، والتدريس هو العمل الذي يفخر به ويؤمل في الارتقاء بالشباب العربي.
مكانة البردوني
وعن مكانة البردوني بين شعراء عصره، يقول المؤلف: يـعـتـبـر البردوني أمـة وحده بين شعراء اليمن، يمتلك من القدرة الفنية أكثر مما امتلكوها، فغالبيتهم جنح إلى تجديد الشكل والمضمون في القصيدة العربية، بينما اخترق البردوني إلى روح القصيدة العربية، أفاض عليها من طاقاته الفنية، فأخرجها من رتابتها، وحملها من ظواهر التجديد ما ينسب إليه وحـده، وقد تناول البحث تجديداته في مواقعها المناسبة في فصول اللغة والأسلوب والموسيقى والصـورة، وقد حافظ “البردوني” على القالب الموسيقي التراثي، لإيمانه العميق بشمولية هذا القالب وإمكاناته في استقطاب ظواهر التجديد المختلفة، وسعته لاحتواء المذاهب والتيارات الشعرية المتعددة، بل إن الشكل التراثي عند البردوني أضفى على تلك التيارات إيقاعاً جديداً، فشعره ينطق بالأصالة حينما يمتاح من السريالية والرمزية، وهذان المذهبان بما يحملان من عناصر المفاجأة والتشويه والإيحاء والغموض، قد أثرا في شعره أيَّما تأثير، وظهر ذلك جلياً في تناوله الفني للصورة ولغتها وإيقاعهـا وأسلوبها ونمطها.
وسلَّط المؤلف الضوء على مفهوم الشعر عند البردوني، حيث يقول: إن شعر البردوني عالمه الكبير الذي يجتاز به ذاته إلى فهم عالم الواقع الصغير وأن آفاق الشعر الرحيبة أتاحت له حياة عامرة بالحركة والألوان والضياء فالشعر عمره وسلواه، مضيفاً أن البردوني لا يعبر بالشعر بل يصوّر ويشكل ويلوّن ويحرّك وذلك ينبعث من مفهومه للصلة بينه وبين شعره.
ويتابع: من الناحية الفنية فإن البردوني من الشعراء القليلين في اليمن بل في الوطن العربي الذين ما لا يزالون يحافظون على شرارة الشعر والفن في القصيدة العمودية وهو من القرَّاء المدمنين للشعر الجديد، يفيد من صوره الجديدة ومن تحرره في استخدام المفردات والتراكيب الشعرية الحديث، وقد اكتسب شعره على محافظته أهمية كبيرة في السنوات الأخيرة لمضامينه الجماهيرية الواضحة.
فكره وفلسفته
يشير المؤلف إلى أن هناك عدة عوامل كونية ونفسية وقدرية تألفت لتشكّل فكر البردوني وفلسفته خلال عمره، وتتلخَّص في مولده ونشأته في قريته “البردون”، وإصابته بالعمى المبكر نتيجة الجهل الذي كان سائداً آنذاك، ونشأته بين أبوين مؤمنين رحيمين غرسا فيه العقيدة صغيراً وأعاناه على الصبر وحسن معاملة الناس، وفقر الأسرة والقرية، إضافة إلى عوامل ثقافية ومؤهلات شعرية فطر عليها شاركت في تحديد فكره وفلسفته كتكثيفه العناصر الإنسانية في نفسه، من خلال اطلاعه على الأدب العربي، وخلقه علاقات نفسية عميقة بينه وبين روَّاده، “كأبي تمام وأبي العلاء والمتنبي” وقد أفاد أيضاً من ثمرات الآداب الغربية في نتاج شعراء وأدباء العرب المحدثين وترجماتهم، ومما كثف العنصر الإنساني في نفسه أيضاً، شغفه بالتاريخ والحضارات البائدة، التي استقر بعضها في ذاته تراثاً فكرياً يمتاح منه في أزماته النفسية، كحضارة “سبأ” وملكة اليمن “بلقيس”، وقد ألقيا بظلالهما على الشاعر وعمقا مفهومه عن مساوئ الاغتراب والهجرة عن الوطن، والحضارة الإسلامية التي لم تزل رنيناً في سمعه.
مراحل البردوني الشعرية
وعن مراحله الشعرية، يقول الدكتور أحمد عبدالحميد: إن التزام البردوني بناء القصيدة التراثي عن قناعة فنية وقدرة خلاَّقة ساهم في تشكيل مراحله الشعرية وتأصيلها، فالتزامه قد صحبه خلال رحلته التي استشف فيها خلاصة إبداعات المذاهب الأدبية المختلفة، وتأثره بمذهب دون آخر لم يتولَّد من فراغ بل من ضرورة فنية ملحة، كرغبته في تطوير شعره العمودي ليحتل مكانة بارزة في صدارة الشعر العربي المعاصر، بعد سيل المحاولات الجادة التي أرادت أن تنأى به عن ميدان الحداثة، ومفهوم البردوني للحداثة ينبع من إيمانه العميق بقدرة البناء التراثي على استقطاب المذاهب الشعرية والتفاعل معها تأثرا وتأثيراً لاستمرار قدرة الموسيقى التراثية وفاعليتها وتأثيرها في وجدان القارئ.
وأضاف: أن البردوني لم يقع أسير مدرسة أدبية واحدة، فقد أضفت عليه تقاليده التراثية أصالة وجمالاً، فكان كالفراشة الهائمة في رحيق الزهور، ولقدرته على المزج والإبداع، لم تقيّده حدود المدارس الأدبية التي يضعها النقاد، فالكاتب المبدع يخلق مذهبه دائماً، ومذهب البردوني أن يمزج ابتداعات تلك المدارس في ديوان واحد، بل في قصيدة واحدة، وكثير من قصائده جاءت ترفل في طيوف مدرستين أو أكثر كقصيدة “كانت وكان 1965م”، فقد تعانقت فيها المدارس الشعرية الكلاسيكية والرومانسية والسيريالية وأضفى عليها من إبداعاته المتفردة ما أبرز فيها ملامح فنية ولمسات مرهفة لم تكن لتلك المدارس من قبل، كاستخدامه موسيقى التراث في وزن البحر البسيط بروى الفاء المضمومة، ليلتحم الهمس بالاطلاق، كما استخدم التصريع في صدر القصيدة، لتلتحم هذه العناصر التراثية بأسلوب القص الحديث وتبرز اللغة تراثية، في البدء تفيض في أسلوب حديث تعتمل فيه دفقات الحداثة والتراث معاً، وهذه القوة البنائية تناسب قوة دفع الذكريات في خاطر الشاعر، وتنبئ عن طاقة عاطفية مفكرة بوسعها أن تواجه أزمته النفسية.
أسلوب البردوني في الشعر
وتناول المؤلف في الفصل الثاني أسلوب الشعر عند البردوني، معتمداً على المنهج الوصفي التحليلي لمزجه بين الموضوعية العلمية ورصد القيم الجمالية واستبطان العاطفة، إيماناً بأن الشعر هو عالم الشاعر، يقيم فيه المودة التي افتقدها في عالم الواقع.
ويقول: قد يأخذ الأسلوب عند البردوني طابعاً تراثياً ومسحة رومانسية وشيئاً من الفلسفة الوجودية، مستعرضاً خصائص الأسلوب لديه ومنها الحوار الذي يعد من أهم خصائص البردوني الأسلوبية التي تتيح له قدراً من حرية التعبير بعيداً عن الانفعال والمباشرة لتعدّد الأصوات في الحوار.
ومن خصائصه أيضاً القص الشعري واستخدامه للموروث بأشكاله المتعدّدة، الديني والتاريخي والفلكلوري والأمثال والتضمين والوحدة العضوية، التي تعتبر وجه الحداثة والتجديد، الذي تتجلى فيه ابداعاته في مجالي اللغة والأسلوب.
الصورة الشعرية
وقدَّم المؤلف في الفصل الثالث، دراسة عن الصور الشعرية لدى الشاعر عبدالله البردوني، مستعرضاً خصائص الصورة ووظيفتها وطبيعتها وأنماطها وروافدها وعناصر تشكيلها ولغتها، مستدلاً بنماذج عديدة من قصائده، ويقول في ختام كتابه: لم يحاول البردوني الخروج عن القالب التراثي الشعري، مؤثراً أصالة البناء وهديره الموسيقي الأثير، الذي واءم شخصيته الفنية ودراسته الأكاديمية لفنون اللغة والأدب ومن ثم فقد أبدع في هذا الإطار وجاء بالجديد الرائد في عالم الصورة الشعرية، ويتخلَّق الإبداع من ثقافته الغزيرة والمتشعبة في أرجاء العوالم الشعرية المترجمة، والإلمام المستنير بالشعر العربي القديم والحديث، ومدى تأثّره بالتيارات والفنون العالمية الوافدة سلباً وإيجاباً، وقناعته الفنية برحابة التصوير في حقول اللغة، جعلته حذراً في تأثّره بالشعر العالمي المترجم، فاسترفد أنماطاً جزئية تكثّف جوانب الإيحاء في الصورة، وتجدّد فيها روح الألفاظ والتراكيب، وتدفع المتلقي -لما لتلك الأنماط من مفاجأة وإغراب- إلى تعلّقه بمعايشة اللحظة الأولى للتجربة التي تتولَّد فيها الصورة للبحث عن ومضات تنير له تلاحمه مع خيال الشاعر.

قد يعجبك ايضا