تتصاعد سياسة الاغتيالات الصهيونية في مدينة جنين مُحاوِلة وأد التجربة المُقاومة الصاعدة، في حالة تتناقض جزئيا مع الواقع في مدن الضفة الغربية ومخيماتها الأخرى، حيث تبدو جنين أكثر جنوحاً إلى التحدي، والأكثر استعصاءً على الاقتحامات، بينما الحالة المقاومة في المدن الأخرى وإن كانت متصاعدة بدورها إلا أن مظاهرها تتجلى في عمل شعبي؛ يركز على الفعل الجماهيري المستند إلى أدوات المقاومة البسيطة والتقليدية؛ كإلقاء الحجارة، أو الزجاجات الحارقة، أو العمليات النوعية الفردية، على عكس جنين التي تتجلى مظاهر مقاومتها على هيئة تكتل وازن، يربك الاحتلال، ويعرقل إلى حد ما جهود منظومة التنسيق الأمني المتحالفة معه.
ومع أنه من المبكر البحث عن الأسباب التي جعلت جنين الحالة المتميزة في عالم المقاومة في الضفة الغربية، إلا أن السؤال عن سبل الحفاظ على هذه التجربة وضمان تطورها، وديمومتها، في غاية الأهمية والضرورة، ذلك أن العدو الصهيوني عاجز فيما يبدو عن اجتياح واسع لجنين، وهذا لأسباب متعلقة بالمعادلة القائمة حاليا في علاقته مع الساحات الفلسطينية الأخرى، وعدم رغبته في إشعال الضفة ككل.
إلا أنه لم يستسلم لذلك الواقع، وقد اتخذ القرار -كما نقرأ في تصرفاته- بوأد تجربة جنين بشكل متدرج، وعبر سياسة القضم، حيث تشير الإحصائيات إلى اغتياله 26 فلسطينيا من جنين خلال الأشهر الأربعة الفائتة، أغلبهم في عمليات إعدام مشابهة لعمليته الأخيرة.
هذا القرار الصهيوني يفرض علينا سلسلة من الإجراءات العاجلة والاستراتيجية؛ لضمان حماية هذه التجربة الاستثنائية، -نظرا للظروف التي نشأت فيها، وأحاطت بها- وأهم أدوات حماية هذه التجربة؛ اتخاذ مزيد من الإجراءات الأمنية التي تضمن حماية المقاتلين، فالحذر والأخذ بأسباب النجاة أولوية قصوى، ليس لأننا نتحدث عن حياة إنسان، وهي في غاية الأهمية دون شك، ولكن لأننا نتحدث عن حياة تجربة كاملة يرتبط بها مصير شعب بأكمله.
صحيح أن فشل هذه التجربة لن يكسر الإرادة الفلسطينية الكلية، لكنه سيؤخر حتما مشروع التحرر الوطني، فمن المهم البحث في سبل استدراج العدو للمجاهدين والوصول إليهم واغتيالهم، ودراسة التجارب السابقة والحالية، والاستفادة منها في تجاوز الأخطاء، وإلزام المجاهدين من قبل قيادتهم بسبل الوقاية من الاستهداف.
الأمر الآخر هو مراكمة القوة، والتدريب، وزيادة أعداد العناصر المقاومة، والإسراع في هذه المهمة، لتظل قدرة الاحتلال على قضم هذه التجربة أقل من قدرتها على التراكم، والنمو، والعمل على توسيع المساحة المحرمة على الاحتلال داخل جنين، ليكون بالإمكان تطوير قوتنا في نطاقها الواسع.
كذلك من المهم أن ننتقل من حالة الدفاع عن جنين إلى حالة الهجوم التي نشتبك فيها مع قوات الاحتلال ليظل دوماً في إطار الدفاع عن نفسه، وفي إطار ردة الفعل، وهو كذلك واجب مختلف مناطق الضفة، المُطالبة بحماية تجربة جنين عبر تصعيد الاشتباك الشعبي والعسكري مع الاحتلال لتشتيته وإرباكه، وإفقاده القدرة على التركيز على تلك المدينة الباسل أهلها.
لأن نجاح تلك التجربة، ليس نجاحا لمدينة محددة، وإنما لكافة مدننا وبلداتنا، التي ينبغي في إطار سعيها لحماية تلك التجربة، أن تدرس أسباب نجاحها، وتعمل على نقلها إلى مناطق أخرى، ولنا أن نتخيل لو كان لدينا أربعة أو خمسة تجارب مشابهة لجنين في مختلف مخيمات الضفة ومدنها، كيف سيُشتت ذلك الاحتلال ويستنزفه.
إن إشكالية المقاومة في الضفة في جوهرها هو عجزها عن مراكمة الخبرة والقوة، لأن الاحتلال قادر على اعتقال أي أحد، والتحقيق مع كل شخص، وكثير من المحاولات فشلت نتيجة اعتقال عشوائي، أو اعتقال مبني على قراءة السلوك العام لفرد يُتوقع مشاركته في المقاومة استناداً لتاريخه الشخصي، أو تاريخ عائلته.
أما نجاح تجربة جنين وأمثالها في حالة تكرار التجربة، سيمنحنا القدرة على حماية أولئك الأفراد، ومنحهم القدرة على التجريب، والتدريب، والتطوير، والمراكمة، والتنظيم، والتنسيق، وكل ذلك في أمان من الاعتقال، لكونهم في مناطق محرمة على الاحتلال.
الأمر الآخر المهم لحماية هذه التجربة، أن يدرك الاحتلال أن ثمنا كبيرا سيُدفع لكل جريمة يرتكبها، ولكل شخص يغتاله، وذلك على يد أبطال الضفة والقدس والداخل، ولو اقتضى الأمر تدخلاً من قطاع غزة لحماية الأبطال في جنين، فأنا أرى أن ذلك ضروريا دون أن يدفع هذا الأمور إلى حالة حرب واسعة.
وذلك ليس فقط بدافع الأخوة النبيل دائما، وإنما بدافع المصلحة الاستراتيجية العليا لمجموع الكل الوطني الفلسطيني، لأن حماية تجربة جنين سيغير الواقع كليا في الضفة، وهو ما يغير تماما شكل الصراع مع الاحتلال، نظرا لما تمتلكه الضفة من إمكانيات كبيرة من ناحية الجغرافيا والعمق والقرب من مراكز تجمع العدو، وتداخلها الواسع مع مستوطناته، وهو ما يعني في حالة بناء جسم مقاوم حقيقي في الضفة تطوراً كبيرا في القدرة على حسم الصراع مع المحتل، وإزالته، وتجريف وجوده.
الباحث في الشأن الفلسطيني