وادي لاعة.. عراقة التاريخ وإعاقة الزمن في ميزان الثورة الزراعية

 

الثورة / يحيى محمد
شاءت الصدف أن يؤجل موعد مشاركتنا في محضر تشكيل مجموعة من المدارس الحقلية ضمن الحملة الوطنية للإرشاد المجتمعي الزراعي بمديرية الرجم بعد صلاة ظهر أحد أيام أواخر شهر رمضان الفضيل إلى الرابعة عصرا، وحينها كنا نقف إلى جوار المفرق المؤدي من مركز مديرية الطويلة إلى وادي لاعة، برفقة أ. محمد قطينة الذي اقترح بأن الوقت يعطينا فرصة كافية في أن نكون في حضرة وادي لاعة.
وفي الوادي، استقبلنا العاقل (فراص صالح زايد) الذي أخذ يطوف بنا في جنبات الوادي، نستمع منه إلى تفاصيل حكاية ماضٍ زراعي تليد لهذا الوادي لأيام ليست بالبعيدة، إنها أيام جده والد أبيه، تلك الأيام التي كانت زكاة مزروعات وادي لاعة من البن واللوز والبرقوق وأنواع من الذرة الرفيعة والبيضاء والحمراء والذرة الشامة والدخن، وكل ما تشتهيه الأنفس من السمسم والموز والرمان وعنب الفلفل والمانجو والتمر والمناصف فضلا عن بركات الثروة الحيوانية من العسل والسمن واللبن واللحوم وأصنافا من المصنوعات الحرفية الجلدية والصوفية والتمباك والحناء والهرد والحومر (التمر الهندي) والخرمش والسدر وفول الصويا، تقدر بالأطنان وتحملها قوافل الجمال عبر طريق معبد ومرصوص بالأحجار من الوادي إلى بيت المال في رحلة يومية على مدى أسبوع.
ويستمر الحديث للعاقل فراص: لم يكن الفرد من أبناء الوادي يحتاج- إلى وقت قريب- مع خيرات وبركات الوادي إلى السوق إلا في السوالف النادرة لشراء القليل من القاز للإنارة أو الملح أو النبات السكري، لكن في المقابل كانت القلوب صافية ومتآلفة، متعاونة في ما بينها البين، تجمعها كلمة واحدة وغرم واحد سواء في مناسبة أو في ضائقة، أقصد أن الحياة كانت خالية من كل أمراض العصر من المماحكات والأنانية.. والأهم من ذلك، أن الأيدي كانت كلها عاملة، فلم تكن ترى الناس إلا وهم إما يحرثون في الأرض أو يجنون ثمار ما نبت منها أو يرعون الماشية أو في خدمة مجابح النحل وتقليم الأشجار وصناعة الملبوسات من الأصواف والفطن أو في حباكة منسوجات السعف أو في صناعة أواني المدر أو في جوايش تصفية مساقي السيل، لم تكن هناك بطالة.
كانت ساقية الوادي تحفر سنويا قامتين في العمق بعرض يزيد عن ممر جملين محملين (تقل طريق سيارة) ليس أكثر، تحفر بجوايش جماعية من أبناء المنطقة سواء أصحاب المزارع أو غير مزارعين، فالكل في الوادي يربطهم مصير واحد ومصدر رزق واحد يحافظ عليه الجميع كل حسب استطاعته وهو الوادي، وبصورة تلقائية يحضر الجميع في يوم معلوم قبل مواسم الأمطار وبيد كل واحد آلته من مفرس أو مجرفة أو عطيف أو حتى حجر أو عصى قوية، و(بسم الله الرحمن، يا الله طلبناك العون) من بداية مصب الوادي إلى نهايته تتسلم الأجر مجموعات جوايش من قرية إلى قرية حتى نهاية الوادي في العزلة لتتسلم الأجر العزل التالية على ذات النسق.
خدعة الغربة
ما عرفت طوال عمري الذي عشته مع جدي (رحمه الله) أن سيل الوادي دخل على مزرعة أو حتى دحر شجرة أو غرسة إلى أن فتح باب الاغتراب في 1985م إلى دول الجوار، ثم البعثات الدراسية، فأبواب العسكرة والوظيفة العامة وتلاحقت أنواع الهجرات الداخلية إلى مراكز المدن، شد الشباب الرحيل جريا وراء ما أسموه الرزق السهل والأوفر، فلم يعد يحضر الواحد منهم إلى قريته سوى للجلوس مع أهله أياما للزيارة وتفقد الحال، وبعضهم ارتحل بشكل نهائي.
وجاءت المساعدات والمعونات الأجنبية عبر منظمات الإغاثة والقروض الربوية لتزيد الأمور سعة زائفة في الرزق، أدخلت من تبقى من الناس في بحبوحة من الدعة والسخسخة، فترك الجميع الاهتمام بشؤون مجاري الوادي، وكان من أوائل المهاجرين أبي واثنان من أعمامي، لم يبق مع جدي حينها سواي.
جرت الأيام، وبدأت أحوال الوادي تتدهور شيئا فشيئا حتى غمر الطمر مجاري الوادي وارتفعت السيول واكتسحت المزارع، فأخذت معها جذور وأصول كل شيء مما كان يزرع فيه من بن وموز ولوز وفستق ورمان وعنب الفلفل وأشجار المانجو والسدر… إلخ، وتوقفت مهنة الزراعة والحرف اليدوية وكل شيء حتى بدت الصورة كما ترونها قاتمة على مجرى سيل؛ حطام جنان صارت وكأن لم تغن بالأمس ولم ينبت فيها من قبل شيء أبدا أو يعيش على ظهرها كائن من بشر البتة.
تربة عذراء
وإلى جذع شجرة يزيد عمرها عن 500 عام، وتسمى بالذرح، قيل أن السيل اجترف الكثير منها خلال العقود الثلاثة الأخيرة، يجلسنا العاقل (فراص)، وهناك بدأ يعدد لنا الفرص الذهبية المتاحة في الوادي، مؤكدا أن كل ذلك النيس الذي نراه متراكما وينتشر في جنبات الوادي، هو في الأصل تربة خصبة صالحة لزراعة، كل شيء، أضف إلى ذلك وجود المياه الجوفية على عمق يتراوح ما بين 8-12 مترا يحفرها الواحد بيده إذا انعدمت الأحجار والأعواد.
ونوه (العاقل فراص) بأن التربة في الوادي عذراء دوما لا يمسها سماد ولا بودر؛ وأنها تنبت ثمارا طيبة وغنية بالغذاء للإنسان ومراع كثيفة للحيوان والنحل بمجرد الغرس وقليل من العناية سيما وأن التربة تتكون من طمر سيل يحمل معه دسومة الأرض من كل مصدر يمر به، وتتحلل فيها العديد من عناصر الطبيعة من مواد عضوية ومعادن وخلافها.
وقال: إن الأوضاع التي يمر بها أبناء الوادي هذه سيئة للغاية، فأغلب المغتربين رحلوا من أعمالهم في الغربة، وبعضهم فضَّل الرجوع وتحمل قساوة الوضع المعيشي في بيته أوهن عليه من الاستمرار في الرضوخ لما يتلقاه من إهانات وقلة قيمة على أيدي الكفلاء وأرباب الأعمال في الغربة.
وأعلن (العاقل فراص) ومعه مجموعة من أبناء الوادي استعداد المجتمع في نواحي الوادي تحمل مصاريف شيول من قيمة ديزل بالسعر الرسمي ونفقات السائق، والمبادرة في حفر قنوات مجرى سيل الوادي على طريق استعادة المزارع المنجرفة بفعل السيول، مؤكدا أن كل ما تحتاجه عملية استعادة الزخم الزراعي في الوادي لا تتعدى توفير شيول يحر مكان مجرى السيل لمرة واحدة، وسيتولى المواطنون ما تبقى من تعريم للمناطق الزراعية بالجوايش والعانات سالف الآباء والأجداد.
وللمجد عودة
إلى ذلك، أعطيت للحاضرين صورة مختصرة عن مبادئ وسياسات وأهداف الثورة الزراعية، ونبذة عن الزراعة السهلة والزراعة البينية وزراعة واستصلاح الأراضي المهملة، بالإضافة إلى النصح بضرورة الاستعانة بكبار السن في الحصول على التقنيات الزراعية وخبرات الأجداد في صيانة مجاري السيول والحفاظ على الأراضي الزراعية من الانجراف بالسيول كعمل الجبيونات من مخلفات الأشجار والتراب والأحجار.
كما تم التنويه بضرورة أن يستشعر الجميع مسؤوليته أمام المرحلة لمواجهة ما يفرض علينا من حصار ظالم وعدوان غاشم من دول العدوان والعالم أجمع، إضافة إلى مواجهة تداعيات الأحداث الجارية في روسيا وأوكرانيا وما تصاحبها من متغيرات على كافة المستويات الاقتصادية والعلاقات الدولية.
من جانبه، حث مدير وحدة تمويل المشاريع والمبادرات الزراعية والسمكية بمحافظة المحويت محمد علي قطينة، الحاضرين على سرعة ترشيح فرسان تنمية ومرشدين زراعيين وعمال صحة حيوانية وإعلامي ونحال وباحث كي يتم الرفع بهم عبر الجمعية للتدريب والتأهيل وتمكينهم من قيادة الجبهة الزراعية في الوادي، والشروع في تفعيل المشاركة المجتمعية وتحشيد الناس نحو تنفيذ مبادرات مجتمعية لإعادة شق مجرى السيل العام للوادي، وتنظيف البرك والخزانات والسواقي والحواجز وإصلاح المعادل على جنباته لاستغلال مياه الأمطار وتوظيفها بالطريقة التي كان الآباء والأجداد يستثمرون بها إمكانيات الوادي في الزراعة وتربية الثروة الحيوانية والمناحل ومختلف المهارات اليدوية والحرفية التي كانت نشطة على مستوى الوادي.
استجابة الحاضرين بدت قوية، فقد رحبوا بما طرح، واعتبروا البدء في التفاعل مع الجبهة الزراعية وتنفيذ مبادئها وسياساتها القائمة على هدى الله والمشاركة المجتمعية الواسعة وخفض فاتورة الاستيراد وتشكيل الجمعيات التعاونيات على أرض الواقع أولويات دينية ومتطلباً حياتياً مهماً وواجباً وطنياً مقدساً، عاقدين العزم على معاودة الاهتمام بالزراعة والبدء في حصر الأراضي المطمورة بالسيول وتعيين حدودها والرفع بأي مشاكل أو معوقات محتملة، ومن ثم البدء في التحشيد للانتساب إلى الجمعية الزراعية، وتكوين لجنة مجتمعية تتولى إدارة شؤون المبادرات المجتمعية في الوادي تمهيدا لريادة حركة استنهاض مجتمعية تعيد الوادي إلى سابق مجده التاريخي.
تصوير/ زيد البكري

قد يعجبك ايضا