
شروخ تتشقق في جدار رمادي يملأ الشاشة يندفع منها الناس يظهر عنوان الفيلم المليء بالإيحاءات «ليس للكرامة جدران» وهو المعنى النبيل الذي يسرى في شرايين هذا العمل التسجيلي للمخرجة اليمنية سارة إسحاق المرشح لجائزة الأوسكار.. ومعه «الميدان» للمصرية جيهان نجيم..
وصول الفيلمين للمرحلة الأخيرة في المسابقة سابقة لم تحدث من قبل خاصة بالنسبة للمرأة العربية من ناحية والسينما التسجيلية من ناحية ثانية مما يعبر بوضوح عن تنامي دور النساء في الحياة العامة برغم الدعاوى المتخلفة المتداعية لعودتها إلى البيت ومعاملتها كحريم أو جوارُ فما نشاهده من انطلاق إرادة البنات في التظاهرات ــ سواء مع أو ضد ــ يؤكد أن المارد الذي خرج من القمقم لا يمكن إعادته إلى محبسه.. بروز دور المرأة في الإبداع السينمائي روائيا وتسجيليا في مصر وفلسطين ولبنان وغيرها من البلدان يْعد أحد تجليات حضورها.. وما نجاح الفيلمين في الوصول إلى عتبات الأوسكار إلا دليل تفوق السينما التسجيلية على السينما الروائية.
الفيلمان بينهما وشائج قوية: «ليس للكرامة جدران» شأنه شأن «الميدان» يعتمد على مادة أرشيفية بالغة الثراء قام بتصويرها شابان جامعيان إلى جانب سارة إسحاق. ثلاث كاميرات في ساحة التغيير ترصد وقائع جمعة الكرامة يوم 18 مارس 2011 حين خرجت اليمن كلها برجالها ونسائها أطفالها وشيوخها فضلا عن القبليين والمدنيين كى يحطموا الحواجز ويواجهوا بصدور عارية قنابل الغاز ورصاصات الغدر .. ومع تدفق مشاهد الفيلم ومتابعة تساقط القتلى والجرحى ومحاولات الإنقاذ نستمع لشهادات المصابين في الأحداث بأصواتهم المتحشرجة الصادقة النابعة من القلب.
«الميدان» يمتد زمانيا إلى أكثر من عامين وبينما يتسم الفيلم اليمنى بطابعه الملحمي الخالص حيث يندلع الصراع بين كتلتين بشريتين يتميز «الميدان» بنزعة درامية واضحة فرضتها ظروف الثورة المصرية بما تضمنته من تناقضات وتغيرات داخل كل طرف في الصراع فأصدقاء الأمس ممن آلت لهم السلطة يصبحون أعداء اليوم ينتهجون ذات الأساليب الوحشية التي كان يستخدمها النظام السابق مما يعنى أن الثورة لم تتم فصولا ومشوار النضال لم يكلل بالنجاح بعد.. لذا عادت المخرجة جيهان نجيم لتستكمل فيلمها الذي كان ينتهي بهزيمة نظام مبارك واحتفالات الثوار في ميدان التحرير.
«ليس للكرامة جدران» قوى وواضح وبسيط ترويه الصورة وشهود العيان. أما «الميدان» فإنه بحكم ملابسات الثورة وتغير اتجاهات الكتل الفاعلة بداخلها شديد التركيب تعبر عنه المشاهد الوثائقية فضلا عن رواة لا يسردون الأحداث بقدر ما يعلقون عليها حسب الموقف منها وهى تعليقات فكرية عقلية تحاول التحليل والتفسير والتقييم وعاطفية في الوقت ذاته فالرواة خاصة صاحب الوجه المصري تماما أحمد حسن القادم من قلب الميدان المشارك والمراقب يعبر عما يراه بجرأة وضمير يقظ بانفعالات متباينة ما بين الأمل والألم العزيمة واليأس. الفرح والحزن. تعزز سارة إسحاق فيلمها فنيا بموسيقى مصاحبة تتواءم تماما مع مشاهد التوتر والصدام وتتداخل مع الأصوات البشرية المطالبة بأمر واحد موجه للطاغية «ارحل».. في المقابل تستفيد جيهان نجيم بعدة عناصر مرئية ومسموعة من قلب الميدان ومن خارجه لتكثيف الإحساس بالمواقف مثل رسوم «الجرافيكي» الثرية بالمعاني والتى يتخلق بعضها أمامنا: صورة وجه محمد مرسى تحيط حولها دائرة باللون الأحمر ثم يندفع من عبوة «الاسبراي» بذات اللون خط طولي يشطر الصورة تلخيصا لانتهاء مرحلة.. وبلقطة فوتوغرافية واحدة معروفة وشهيرة تذكرنا بأحداث يريد البعض طمسها مثل الخطيبة في المشرحة التي تمسك بيد خطيبها الشهيد في مذبحة ماسبيرو وذلك الشاب التافه المفتول العضلات الملتحي الذي يضع كفه بوقاحة على فم المناضلة شاهندة مقلد أمام الاتحادية.. وإلى جانب الموسيقى المصاحبة ثمة الهتافات الجماعية وأصوات دوى القنابل وأزيز الرصاص وسارينات عربات المطافئ والإسعاف. لكن قبل كل هذا وبعده تؤخذ المادة الوثائقية في الفيلمين كحجر الزاوية ودور البطولة وهى أصلا من إبداعات الشعبين اليمنى والمصري مثيرة وحيوية في «ليس للكرامة جدران» ومبهرة إن لم تكن مذهلة في «الميدان» ذلك أنه لا شبيه لها في السينما الروائية أو التسجيلية فضخامة مظاهرات الشعب المصري ومسيراته وتوحده لا قرين له في ثورات البلدان الأخرى.. وبالتالي من الممكن القول من دون التقليل من شأن المخرجتين أن الفضل في وصول الفيلمين إلى عتبات الأوسكار يرجع إلى جماهير قررت تحطيم أغلال الخوف وصنع مستقبلها بنفسها حتى لو كان الثمن لحم ودم أنبل أبنائها.
*كاتب وناقد سينمائي مصري عن الشروق المصرية