من المعروف أن مصطلح الأمراض مرتبط بجسم الإنسان لكن المرض يصيب كل شيء حتى يصل إلى العمل ويبدأ يتغلغل فيه فيصيب الإدارة ثم ينتشر بشكل معد وخطير ليؤثر على أداء العاملين ومخرجات ونتائج الأعمال مرورا بالأهداف والخطط بمعنى القضاء على مجمل بيئة العمل، لأن انتشار مثل هذه الأمراض في المجتمع سبب رئيسي لكثير من الأزمات الاقتصادية كما أنه يضع حدا للتنمية المستدامة، ويساعد على تفشي الكثير من المشاكل.
وتلك الأمراض هي نتيجة حتمية للأنظمة الإدارية والاجتماعية التي تحكم بيئة العمل وتدير العلاقات الإنسانية، ولأن تكاليف تلك الأمراض وآثارها لا تنحصر على فرد أو بيئة بذاتها، بل تمس المجتمع والاقتصاد ككل, فالأمراض التي ترهق الجسد الإداري لا تعود فقط إلى الأسباب ذات الطابع القانوني والنظم ، ولكنها تعود أيضا إلي ضعف المساءلة والمحاسبة وضعف فاعلية الردع والسلوك البشري وتعقيدها من جانب آخر، بمعنى تراكمات متعددة لأنها أصبحت تمثل عبئاً ماليا واقتصاديا حيث أن لها تكاليف باهظة ولها تداعيات خطيرة على العملية التنموية والمعيشية، فمن الضروري معرفتها وتتبع حالاتها ومعالجتها أولاً بأول كونه سبباً لإهدار الموارد والتخلف الإداري والاجتماعي والاقتصادي وتكراراً للدور الخشبي الرتيب نفسه الذي وجد ضمن السمة البارزة للتخلف الإداري، فالعلم بالمشكلة وتوصيفها شيء وفكفكتها والعمل الفعلي على حلها شيء آخر .
وتأتي في المقدمة الإدارة التقليدية التي تعاني في الأصل من الجمود والإعاقة نتيجة الآليات المستخدمة بفكر نمطي متأثرة بقيود مجتمعية, ومن هنا يمكننا القول إن مجتمعنا يعاني كأي مجتمع من أمراض إدارية متنوعة وتتعدد من حيث أشكالها وصورها وأنماطها ومنها العادي ومنها المزمن، والجهاز الإداري أو القطاع الاقتصادي يعتبر إحد أهم ركائز الدولة والمجتمع المترابط والذي يعمل بمنهجية نظامية عالية المستوى كونه أساس أي كيان يسعى للتنمية الإدارية وللتطور بثقافته وقيمه السمحة ,بعيدا عن أي سلوك بشري سلبي تنتج عنه أمراض متعددة أولها مرض المحسوبية وهو نمط سلوكي ينطلق من دوافع شخصية واعتبارية وهي رفيقة للاستغلال السيئ لبيئة وظروف العمل وتتخذ أبعادا مختلفة تجعل منها بوابة أخرى لتعطيل الإدارة ونظمها وآلياتها وقوانينها وإذا تم تتبع حالة المحسوبية ندرك بسهولة أنها الرشوة والبيروقراطية المخترقة واستغلال الوظيفة وقد اتخذت شكلا بنيويا واكب مراحل متعددة، لتصبح جزءا من تاريخها وتحولت إلى عبء على الموازنة العامة ,والثاني مرض الانتهازية التي تعد ظاهرة قديمة ومتجددة في ذات الوقت وتواجدت هي الأخرى عبر التاريخ البشري وبكل الفترات وترعرعت داخل التجمعات.
والثالث التملق الإداري وهو مرض قد ينتشر بين جميع المستويات الوظيفية ويساهم في أزاحة الكفاءات الجيدة ومن هذه الظاهرة ينتج مرضان خطيران هما وضع وتعيين موظفين ضِعاف في الوظائف غير المناسبة، وفي الوقت ذاته يعتبر منح بعض الأفراد فرصا أكبر من إمكانياتهم ودون مراعاة للكفاءة والتدرج والنضج المهني ، أي بمعنى عدم وضع الموظف المناسب في الوظيفة المناسبة له حتى بحسب القدرات، والأسوأ إذا كانت الوظيفة إشرافية أو قيادية، الأمر الذي قد يصيب العمل والموظفين الواقعين تحت إمرته أمثال هؤلاء بالضرر الكبير ربما يشعر كل مستوى إداري بعجز تام عن فهم الآخر وعدم القدرة على التعامل معه.
هناك أمراض أخرى يمكن تتبعها ومنها على الخصوص القصور المؤسساتي والضعف في الأداء وانعدام التوازن والتداخل بين المهام والاختصاصات والمهام والهياكل واللوائح المتقادمة والمتهالكة وهي من أكثر أدوات الإدارة فاعلية والتأثير في تنفيذ الاستراتيجية والأهداف والخطط وهي نتيجة تستحق عناية خاصة حال وجود الرغبة وإرادة التغيير، لأنها خلال الفترات السابقة كانت من الأسباب الأساسية للتعثرات التي عرفتها البنية الإدارية، وضعف الاستثمارات ,فهذه الأمراض تعود مرجعيتها للارتخاء والتخلف والضعف الذي يعصف بالإدارة ويؤدي إلى إنهاكها وتراجع أدائها وإهدار مواردها وضعف مناعتها أمام ما تواجهة من تحديات ومعوقات لتحقيق التوازن والنهوض والاستقرار والتطور في الحاضر والاستعداد لمتغيرات المستقبل ومعالجة أي اختلالات في وقتها والاستفادة من تجارب الماضي.
فالاستمرار على وجهة واحدة يزيح ويغيب الآليات المتجددة المهمة التي تملك القدرة على التغيير والتطوير المستمر في التمكين والتقدم نحو الأمام بأفق وأبعاد عالية وواقعية مثل تطوير الهياكل الإدارية باتباع ثلاث خطوات متتالية تتمثل في التصميم والتطبيق وإعادة التقييم والتحسين مع وجود مقاييس للجودة والأداء يتبعه التوصيف الوظيفي وسلاسة وترابط في توزيع المهام والاختصاصات ووضوح حدود المسؤولية كحلقات متكاملة وتحسين الأنظمة المعلوماتية الإدارية بما يتماشى مع عدالة وإحقاق التوازن بين الواجب والحقوق للعاملين في التوزيع العادل والمحكم لكل المستويات الإدارية والمساءلة، فكل القدرات البشرية قابلة للتطور والتحسن وفي حال إدراك أهمية الارتقاء بمستوى التوازن بين واجب العمل والعلاقة المجتمعية لأهميتها للجميع حتى لا تصاب بتجلط في دماء البيئة العملية وتحد من قدرتها وكي يصبح أثره إيجابياً ويتراجع التخلف الإداري.
الجميع يتفق في العمل الإداري التأكيد على الالتزام بالانتماء والولاء والنزاهة وجودة الأداء، والسلوك الإداري المتميز, والعلاقة الجيدة الشفافة وتجنب التنافس غير البناء، والترحيب بالأفكار والمقترحات الجديدة من الجميع طالما أنها تخدم مصلحة العمل من أساسيات المعالجة .
فالإدارات تعيش بتراكمات الماضي وبقدر ما تمتلكه للحاضر واستشراف للقادم عبر عمليتا الإدارة والتواصل بينهما مع قدرتها على استغلال كل ذلك بالصورة المثلى بحيث تساعد على الاستمرارية والعمل على الوجه الأكمل من خلال كوادر لديها استعداد وحس عالي للاجتهاد والتحسين ويتاح لها فرص التنفيذ وتحمل المسؤولية بضوابط نظامية تتمتع بمرونة إيجابية قابلة للتقييم والتعديل من وقت إلى آخر بحسب الأهمية والمتغيرات والمستجدات والاحتياجات و تقنية بيانات ومعلومات تمشياً مع أحدث الطرق والأساليب العالمية المتطورة، التي ستصب في النهاية في تعزيز وترسيخ وتحقيق جميع المبادئ الضامنة لمعالجة أي أمراض إدارية.
*باحث في وزارة المالية