
كل الأماكن التي لعبت دوراٍ بارزاٍ في الإطاحة بحكم الأئمة لا يزال التاريخ يخلدها ولا يمكن فصل المكان عن مجريات التاريخ.. أماكن لا يزال أثرها يتردد في الأسماع ليلاٍ نهاراٍ.. الماضي القريب والبعيد هو الجامع هو زمن متعدد جرت أحداثها في مكان واحد كما هو حال ميدان التحرير في مصر.. اليوم صار هذا الميدان هاجس قلق لأي حاكم كان التحرير سبباٍ في تصعيده إلى سدة الحكم.
في العام 2011م قبل تاريخ 11 فبراير من نفس العام أدرك النظام في اليمن حينها خطر الاعتصام في ميدان التحرير فاستبق تلك العلامة الفارقة في تاريخ البلد بنصب الخيام فيها لم يكن يدرك النظام وقتها أن العلامة الفارقة ستدور أحداثها في التحرير أو في غيره لأن الهدف هو إسقاط النظام ولا يهم بعدها من أي مكان سيهتف الناس بذلك. حاول نظام صالح جاهداٍ قطع الطريق لنصب خيام بالعنف وقمع المظاهرات.
في الستين والدائري جرت الأحداث الأولى وفي كل يوم ينطلق المتظاهرون من جامعة صنعاء يواجهون بالعنف وتسقط إصابات محاولات المتظاهرون المستميتة نجحت في النهاية بنصب أول خيمة أمام جامعة صنعاء وإطلاق الاسم «ساحة التغيير» لم يكن وقتها في أذهان المعتصمين أن الشهداء سيدفنون أسفل الفرقة وما بات يسمى بـ»مقبرة الشهداء» المكان المجاور للساحة جزء من الفرقة الأولى مدرع التي صدر بها قرار جمهوري مؤخراٍ بتحويلها إلى حديقة (21 مارس) وإن كان الأمر لا يزال على حاله ساحة التغيير شهدت الكثير من الفعاليات وجذبت المنصة الكثير والكثير من الشخصيات الرسمية والاجتماعية التي انضمت إلى الثورة.
محاولات النظام كانت بمثابة الحائل دون توسع الساحة فراح يعمل على نصب جدار يمنع تمدد الساحة باتجاه الجنوب سبق بناء الجدار 18 مارس من نفس العام فهم الناس حينها أن الهدف هو منع التمدد غير أن جمعة 18 مارس التي سميت فيما بعد بجمعة الكرامة غيرت هذا المفهوم بعد أن اتخذها مسلحو النظام ستائر لإخفاء جريمة الجمعة تلك التي راح ضحيتها 52 شهيداٍ و127 مصاباٍ في الجولة التي سقط فيها الكثير من الشهداء والتي أطلق عليها اسم جولة شهداء الكرامة وقبل إزالة الساحة كانت صور الشهداء الذين سقطوا في جمعة الكرامة تملئ جدران الجولة التي تعد اليوم نصباٍ تذكارياٍ لأولئك الشهداء الذين غيروا مجريات الثورة وكانت دماؤهم البداية الأولى لسقوط النظام ذاك المكان صار مزاراٍ للكثير من الناس الذين شاركوا في الثورة أو غيرهم .. لأسابيع ظل الناس يأتون لمشاهدة المكان والتأمل في صور الشهداء وإلقاء الزهور على صورهم.
بعد جمعة الكرامة انطبع في الأذهان مكان آخر وهي مقبرة شهداء التغيير الواقعة على بعد أمتار من ساحة التغيير وهي المكان الذي خصص لدفن شهداء الكرامة بعد أن أقرت اللجنة التنظيمية للثورة الشبابية اختيار المكان لدفن 32 شهيدا بعد الصلاة عليهم في الساحة.
في الذكرى السنوية لجمعة الكرامة يذهب الثوار لقراءة الفاتحة ووضع أكليل من الزهور.. المكان يذكرنا يومياٍ بمن ذهبوا في أول مجزرة للنظام السابق الذي حظى فيما بعد بالحصانة وفقاٍ للمبادرة الخليجية التي تم التوقيع عليها في يوم 23 نوفمبر في العام 2011م.
يقول علي الرميح: «تذكر المكان ليس كافياٍ ووضع الزهور على أضرحة الشهداء ليس نهاية المشوار».
الرميح الذي حضر كل المسيرات وكان شاهداٍ حياٍ على مجرزة جمعة الكرامة يرى أن « تحقيق آمال الشهداء بيمن جديد هو المبتغى وهو الإكرام الحقيقي لهم». في مقبرة شهداء التغيير عشرات الأضحة للشهداء وفي كل قبر مكتوب اسم الشهيد وأسطر من الأبيات الشعرية التي تتنوع في مضمونها بين التعهد بمواصلة الثورة والاقتصاص للشهداء حتى تتحقق كل الأهداف التي من أجلها سقطوا.
في الجمعة الماضية أعادت اللجنة التنظيمية لثورة الشباب السلمية الاحتشاد في الستين لتدشين المرحلة الثالثة من الثورة وهي بناء اليمن الجديد والإفراج عن المعتقلين الذين أمضوا ثلاث سنوات في سجن صنعاء وحجة وساءت حالتهم الصحية بعد إضرابهم عن الطعام.
مصطفى السريحي من معتصمي ساحة التغيير يتمنى أن تعمل هذه اللجنة بجد للإفراج عن المعتقلين وتحقيق أحلام الشهداء الذين سقطوا في ساحة التغيير في جمعة الكرامة وفي غير مكان.
شباب الثورة السلمية صنعوا أكثر من حدث سلمي وفي أماكن عدة كانت تسير فيها المظاهرات وفي كل مكان تواجههم آلة القتل.
في 27 إبريل من نفس العام خرج المتظاهرون عصرا في مظاهرة التصعيد السلمي إلى شارع التلفزيون مرورا أمام ملعب الثورة وفي المكان واجهتهم آلة القتل بملابس مدنية وقتلت منهم 13 ثائراٍ وأصابت 210 آخرين.
كلما مررنا من هذا المكان يذكرنا بمن قضوا فيه وهم يحملون هم الوطن ويحاولون إنجاز الثورة.. وفي القاع أيضاٍ المكان الذي شهد أحداثا في ثورة 26 سبتمبر بحكم قربه من ميدان التحرير.. شهد أحداثا متفرقة من العام 2011م في غير مرة خرج المتظاهرون من الساحة ثم شارع الزراعة ومروراٍ بالقاع غير أن المسيرات السلمية تلك كانت تواجه بالعنف تارة من الأمن المركزي وتارة أخرى من مسلحين بزي مدني وثالثة يتحد المدنيون والأمنيون لقمع المظاهرات تلك.
وكانت مسيرة 19 سبتمبر هي الأقوى والحاسمة في ذات الوقت المسيرة حاولت الاستيلاء على جولة كنتاكي بعد أن تعرضت في منطقة القاع لأبشع المواجهات المسلحة من قبل النظام السابق وسميت جولة كنتاكي بعد تاريخ 19 سبتمبر بجولة النصر.. جولة النصر شهدت مواجهات لمدة ثلاثة أيام وراح ضحية اختراق الجولة بعد أن كانت الحد الفاصل بين المتظاهرين وقوات النظام 100 شهيد و113 مصاباٍ.
قبل هذا التاريخ شهدت معظم المظاهرات في شوارع الجزائر والستين والقيادة والزراعة ورئاسة الوزراء مواجهات عنيفة من قبل النظام راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات المصابين والمعتقلين الذين لا يزال بعضهم في السجون حتى اليوم.
الأماكن عامة تخلد بمقدار ما قدم الناس فيها من تضحيات من أجل غدُ أفضل.
المكان رمز لحدث تاريخي يظل في ذاكرة الأجيال ولا يمحى بمجرد التقصير إزاء من قدموا التضحيات في سبيل رؤية بلد عاشت أوضاعاٍ مؤلمة وأرادوا إخراجها إلى رحاب الأمل والغد المشرق بعد مساء ماطر غير أن استمرار التقصير لفترة طويلة يخلق واقعاٍ غير مرجو ما يتطلب رؤية الأجمل بما يوازي جزءاٍ من التضحيات.
ومن يحاول تجاوز ذلك فعليه تذكر جمعة الكرامة في جولة القادسية وجولة النصر كنتاكي والقاع وشارع التلفزيون و»مقبرة شهداء التغيير».