جمال بنـعـمـر.. ومهمة قهúر خطوط التماس

لا مجال لضياع الوقت فالزمن مرتبط بمهمة أصعب مساراٍ وأكثر تعقيداٍ في بلدُ هو الثاني في العالم من حيث انتشار السلاح.. وفي دولة وصل الصراع السياسي فيها حد النزاع المسلح الذي يْدخل جهود السلام في غيبوبة اليأس من العودة إلى المسار السلمي.. يجب أن يستعيد كل عوامل الحنكة والحكمة واحتمالات المشاق بألوانها -التي لاقاها في كثير من نزاع المجتمعات في كثير من الدول – حد التسليم بالتضحية وصولاٍ إلى هدف الزيارة الأولى لليمن المتمثل في استطلاع خارطة الساحة اليمنية ليعود للأمم المتحدة بتقرير عما يجري في صنعاء وينقله الأثير إلى العالم.. لم يكن يتوقع أن المهمة ستطول وأنه سيكون محور الاقناع ومرجع الرضى بالحلول -في نهاية كل مطاف- لدى القوى السياسية المحتدة والغير قابلة بالنقاش فيما بينها وجهاٍ لوجه ولا تملك الشجاعة في الدوس على جمر الخصومة السياسية جنائن المصالح الوهمية الزائلة.. لكن وإن توقِع حامل غصن الزيتون المغاربي- من قعر السجن إلى معارج الانسانية والسلام- أن مهمته ستطول فالسؤال الأهم في مساره الذهني هو كيف له أن ينجح في بلدُ مثخن بصفيح سياسي يلتهب منذ نصف قرن وقوى سياسية تتنازع السلطة والجاه على حساب شعب فقير ووطن جريح هو الضحية وهو المتنازع عليه وباسمه ترفع الجموع الهتافات وتقتل بعضها قرباناٍ لحب وشرف هذا الوطن الواسع..

بذلك الاستهلال المسؤول جمع «المبعوث الخاص للأمين للأمم المتحدة إلى اليمن » أفكاره قبل أن يتوجه إلى الجمهورية اليمنية في أول زيارة له في ابريل متكئاٍ على عزيمة صنعتها تجربة شافهت الموت في عذابات السجون القهرية في المغرب وعززت مرونتها التي لا تنكسر خْطى الفرار من أسوأ معتقلات الدار البيضاء عبر مضيق جبل طراق مفتتحاٍ بذلك درب صناعة السلام السياسي في العالم.. إنه المعروف جمال بنعمر أحد ألمع الدبلوماسيين الذين قادوا جهود السلام التي تجري تحت مظلة الأمم المتحدة في العالم ومن سيرة الانتماء لجمال بنعمر من مدينة تطوان المغربية وينحدر من أسرة ريفية وجبلية كانت عائلته تقيم بحي بوبلاو بمدينة الناظور قبل انتقالها لتطوان.. أما سيرة التكوين الشخصي فتدلنا على أهم المحطات التي عاشها وعانى منها وشرب كاساتُ من دروس الصبúر حيث اعتقل بنعمر حين كان ناشطاٍ سياسياٍ في كلية الحقوق في الرباط في كانون الثاني (يناير) عام 1976م في عهد الملك حسن الثاني. وبقي في معتقلات سرية وسجون المغرب طيلة ثماني سنوات قبل إطلاق سراحه في نهاية عام 1983م. وبعد ذلك أعيد اعتقاله لفترة وجيزة خرج بعدها من المعتقل وبقي يتعرض لمضايقات حتى قرر مغادرة البلاد عام 1984م متوجهاٍ إلى أسبانيا على متن قارب صيد. وبمساعدة منظمة العفو الدولية استقر في لندن قبل أن ينتقل بعدها إلى فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة. كان لتجربة سجنه الطويلة والمريرة أثر بارز على مسيرته النضالية والمهنية..
بنعمر في صنعاء
فما الذي تغير في نظر جمال بنعمر حين وصل صنعاء.. ¿ أن الصراع السياسي بلغ ذروته فصنعاء تردد بوحاٍ من صدى الشاعر الكبير عبدالله البردوني:
(لأني دخلت السجن شهراٍ وليلةٍ / خرجتْ ولكن أصبح السجن داخلي
فمن يطلق السجن الذي صرت سجنه / ومن يحمل الثقل الذي صار كاهلي )
إنها صنعاء تعيش سجينة بين تماسات معركة تقتتل على ضفافها دولة يمنية قوامها السياسة والقبيلة والجيش الموزع على ولاءات يظن أربابها أن وجوديتها أكبر من وطن اسمه اليمن أن النصر يغازل الجميع في معارك وغزوات بطلها المصلحة وزيت نيرانها الاعلام والزيف والخداع الملون بين السياسة والدين والمذهب ووقودها الأبرياء وناجوها أصحاب العربات المصفحة..
هذا جعل أمام بنعمر خياراٍ واحداٍ لا ثاني له وهو مواصلة جهود السلام والاقناع لكل الاطراف السياسية التي تتراخى حبال حربها ليلة بعد أخرى أمام اصراره.. كان خياره هذا منطلقاٍ من تجربته الطويلة ولم يضع في حسبانه خيار التضحية بالنفس معتبراٍ أن هذا الخيار ليس من اختصاصه فـ(الأقدار بيد الله) وهي الإجابة التي أعطانا إياها في حوارنا المطول معه -الذي نشر في صحيفة «الثورة» قبل يومين.. انه القروي المغاربي الذي قهر خطوط التماس بين فرقاء السياسة اليمنية.. وكان عليه أن يبدل الحماية الأمنية المرافقة معه في كل خط تماس يتبع طرفاٍ سياسياٍ جديداٍ في مناطق صنعاء التنازعية..
لقد حتم عليه هذا الخيار أن يجتاز المتارس وخطوط التماس في البلد الثاني عالميا من حيث انتشار السلاح وأن يتحمل ألوان الحملات الاعلامية التشويهية والتحريضية من القوى السياسية التي تعترض على بعض مواقفه كما أن عليه أن لا يقبل بالمراضاة إلا في حدود التفاوض مع أطراف مختلفة ومتحاربة فقط ليصل إلى جمع اشتاتها من براثن الصراع السياسي.. أن تكون وسيطاٍ لحل خلاف أو نزاع بين أطراف عديدة يجب عليك أن تكون مرناٍ وصبوراٍ أو أن تتوقع هجوماٍ مفاجئاٍ من أي طرف .. هذا ما استشففته – في أكثر من ساعتين ونصف الساعة في حوار صحفي مطول من ملامح هدوء ردوده الرصينة والدبلوماسية.. لقد نجح بنعمر -الذي يعتز بانحيازه لمنظومة القيم العامة التي تضبط إيقاع العمل الانساني لمنظمة الأمم المتحدة- في أن يخرج باليمنيين من أحلك الخلافات والصراعات إلى وفاق سياسي وهذا ليس مبالغاٍ فيه فقد علقت بعض جلسات الحوار الوطني وغادرت بعض الأطراف من الطاولة ولم تعد إلا بعد مجيء بنعمر ومكوثه أسابيع في صنعاء زائراٍ لمختلف الساحات.. فمنذ زيارته الرسمية الأولى لصنعاء بعد تعيينه مبعوثاٍ في نيسان (أبريل) 2011م سجل جمال بنعمر (27) زيارة رسمية إلى اليمن حتى تاريخ 22 كانون الأول (ديسمبر) 2014م خمس زيارات منها داخل اليمن: زيارتان إلى عدن واثنتان إلى صعدة وواحدة إلى الحديدة ووصل متوسط الاقامة خلال الزيارة الواحدة نحو 15- 30 يوماٍ نجح خلالها في التغلب على كثير من التحديات السياسية وحل أسباب الصراع من خلال تنفيذ مئات الاجتماعات مع الأطراف السياسية اليمنية وبمعدل خمسة إلى ستة اجتماعات يومياٍ..
التجربة المهنية
أما تجربة الدكتور جمال بنعمر فترشدنا سيرته العملية والمهنية إلى أنه شغل منصب مدير سيادة القانون في مكتب الأمين العام ومدير مكتب دعم بناء السلام ورئيس مكتب رئاسة الجمعية العامة. وعمل لسنوات عدة مستشاراٍ خاصاٍ لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حيث تمحور عمله حول قضايا بناء السلام والحوكمة وسيادة القانون في مناطق النزاعات. وكان لأربع سنوات كذلك مسؤول التعاون التقني في مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان. وفي عام 1990م شغل منصب مدير في مركز كارتر في جامعة إمروي حيث عمل مع الرئيس السابق جيمي كارتر في مجال حقوق الإنسان والوساطة وحل النزاعات. تخصص بنعمر في القانون الدولي والاقتصاد والعلوم السياسية في المغرب وجامعة سوربون في باريس وأنهى دراسة الدكتوراه في جامعة لندن. قدم استشارات في مجالات سيادة القانون والحوكمة وبناء السلام وحل النزاعات في أكثر من 30 بلداٍ. وعمل في أفغانستان والعراق وبلدان أخرى. في منتصف 2004م عْين مبعوث أمين عام الأمم المتحدة لدعم مؤتمر الحوار الوطني في العراق. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2011م كان وسيط الأمم المتحدة الذي قاد مفاوضات أدت إلى اتفاق نقل السلطة في اليمن. له مؤلفات عدة حول الحوكمة وسيادة القانون وصوغ الدساتير وبناء السلام.

قد يعجبك ايضا