سخرت الدولة الأموية وكل من والاها والقوى الطاغوتية التي من طينتها وجاءت من بعدها منذ عهد يزيد وحتى اليوم – سخروا كُـلّ إمْكَانياتهم وجهودهم لطمس معالم ثورة الإمام الحسين -عليه السلام- “ملحمة كربلاء” حاربوها بكل الطرق وبمختلف الأساليب بقلب حقائقها وبتزوير أحداثها وبتغيير وقائعها وبتشويه صورتها وبذم رجالها وبقمع عشاقها وما تركوا طريقة إلا ومارسوها ولا وسيلة إلا واستخدموها ولو استطاعوا حذفها من صحائف التاريخ وشطبها من أسفاره لفعلوا ذلك حتى ولو كلفهم أنفسهم وكل ما يملكون، ومع ذلك لم ينجحوا في ذلك وفشلوا وفشلت كُـلّ جهودهم وَخابت كُـلّ مساعيهم، واندثرت كُـلّ إمْكَانياتهم، وتلاشت كُـلّ مراميهم ولا زالوا يجنون خيبة فشلهم جيلاً بعد جيل إلى اليوم.
ربما استطاعوا تغييبها عن واقع العامة من مجتمعات الأُمَّــة خلال فترات زمنية متفاوتة لكنهم فشلوا في محوها من أفئدة أحرارها الأتقياء، وفشلوا في انتزاعها من قلوب مؤمنيها الأنقياء، الذين كانوا في الأُمَّــة جسوراً أمينة لملحمة عاشوراء انتقلت عليها إلى أجيالها المتعاقبة جيلاً بعد آخر، فكانت ولا تزال حاضرة في وجدان أخيارهم متأججة في مشاعر أكارمهم ساطعة في وجدان سماواتهم بأنوار الثائرين وإمامهم-عليه السلام- وسطعت في آفاق الكون رغم حروبهم الضروس لها وعبرت كُـلّ البحار والحدود رغم حصارهم المحكم عليها فتجاوزت أسوارهم وتخطت رغم أنوفهم، وفاح شذى عبيرها الزاكي في مشارق الأرض ومغاربها وأصبحت للعالم كله ملحمة الإنسانية المستضعفة ودربها للتحرّر والانعتاق، وكعبة للحرية وقلعة للمساواة ومدرسة للتضحية، وأكاديمية للعدالة، وكلية للشهادة والعطاء، وجامعة للقيم الإنسانية والمبادئ النبيلة.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن عاشوراء.. ليس مُجَـرّد حدث عابر في سجل التاريخ بل هو ثقافة ثورية تراكمية شاملة، ومنهجية عظيمة جمعت كُـلّ خصائص الإنسانية ومعانيها، خطها الإمام الحسين عليه السلام بدمائه الزكية ودماء أهله وأصحابه الذين آثروا معه الخلود على الفناء من الوجود، فبنى صروح مجدها التليد بجماجم طاهرة أبت إلا أن تسقط بساحته وتحت أقدامه قبل جمجمته.
جسدها بأعظم تضحية قدمت ثمناً للحرية والعدالة والحق والمساواة ومن أجل إحياء القيم والمبادئ الإنسانية السامية، وخط-عليه السلام- نهج مواجهة الطغاة ودرب رفض الطغيان ورسم خارطة انتصار الدم على السيف لكل أجيال الإنسانية على سطح الأرض حتى زوال الدنيا ومن عليها.
ولذلك فلا غرابة أن غدت ملحمة كربلاء وثورة عاشوراء ملحمة التاريخ البشري وكعبة يقصدها كُـلّ الأحرار وَالشرفاء من مختلف أصقاع الأرض ليتزودوا منها بالشجاعة الحسينية ويتسلحوا بصمودها الأُسطوري وينهلوا من معين ثبات حسينها وأنصاره، وليتعلموا منها أعظم دروس التضحية والبذل والعطاء والجود بأغلى ما يملكون في سبيل رفع الظلم والطغيان والمعاناة عن الإنسانية المستضعفة، وصارت أَيْـضاً أكاديمية صناعة العظماء يستلهمون منها حب التضحية وعشق الحرية ورفض الخضوع والخنوع لقوى الطاغوت وأحزاب الجبروت، وستبقى قلعة الخلود والمجد الإنساني إلى ما شاء الله تبارك وتعالى ولو كره الحاقدون.