وخسرت اليمن وتاريخها القديم البروفيسور الشيباني أبرز علمائها في هذا الزمان
أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
ودَّعت الجمهورية اليمنية في 5 أبريل 2021م، بمؤسساتها الأكاديمية والعلمية والثقافية، أحد أبرز علمائها ومؤرخيها الأفاضل والمتخصص في علوم التاريخ القديم للحضارة اليمنية العريقة، وترك لطلابه ومريديه، ولتخصص التاريخ اليمني القديم، كنزاً ثميناً لا يُقدَّر بثمن، وهي محصلة جهده العلمي وتفانيه وأبحاثه العديدة والذي استقاه في الأساس من تربة وتراب الأرض اليمنية الخصبة التي احتضنت أعظم الحضارات في الجزيرة العربية، وهي حضارات سبأ، وحِمْيَر، وحضرموت، وأوسان، وقتبان، ومعين، ولا زالت أرفف المتاحف اليمنية والعالمية تروي للعالم أجمع إنجازات ومكاسب الحضارة اليمنية العريقة.
استطاع المؤرخ الألمعي/ يوسف الشيباني -رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته-، أن ينتزع من أنياب المؤسسات العلمية العالمية الاعتراف به كمؤرخٍ جاد، وذي مصداقية عالية، ورفع من خلال قراءاته المتعمقة لـ (زُبر حِمْيَر ومساندتها الدهرية)، استطاع البروفيسور الشيباني من خلال اجتهاده أن يُغْني مكتبات الجامعات اليمنية والعربية والأجنبية بالعديد من أصول المصادر التاريخية للتاريخ العريق لليمن، وعلاقتها بتاريخ الأمم والشعوب التي أقامت الحضارات الموازية للحضارة اليمنية.
لكن يبدو من خلال الجدل الواسع الذي أحدثه المؤرخون اليمانيون والعرب وحتى الأجانب اتكاءً على ما ورثوه من لُقيٍ وآثارٍ ونصوصٍ نقلتها لنا كتابات خط المسند اليماني، وكذلك ما تم تدوينه من اللغة السبئية الصنعانية الضاربة في جذر التاريخ الديني، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، للدول اليمنية المتعاقبة، والصراعات العنيفة التي دارت رحاها بين تلك الدول لقرونٍ خلت.
لكنَّ النقوش والكتابات التي لم تُقرأ بعد، لازالت تَعُجُّ بها متاحف بريطانيا وفرنسا وألمانيا، كلها تنقل لنا اليوم كم هي الحضارة اليمنية عظيمة الشأن وذات قيمةٍ عالية في العلم والجغرافيا وهي هامة لليوم، لكنها تحتاج إلى المزيد من التنقيب والبحث والتمحيص والدراسة، كل ذلك يعود إلى اتساع وتعمق تأثير الحضارات اليمنية على جغرافيا العالم بِرُمته.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار القراءات الجديدة الجادة التي خاض بها المؤرخون الحداثيون، أمثال المؤرخين الأجلاء كمال صليبي، وفراس السواح، وفاضل الربيعي، هؤلاء وغيرهم خاضوا تجربة الفهم التدريجي الصحيح في نشوء وتطور الديانات اليمنية القديمة التي جرى تشويهها وتزويرها، ربما عن عمدٍ وعن سابق إصرارٍ ولأسبابٍ آيديولوجيةٍ تاريخية استعمارية تم تزييف جغرافيتها ونقلها إلى موقع وجغرافيا أخرى.
والحديث حول شخصية البروفيسور/ يوسف الشيباني، رحمة الله عليه، يطول ويَعْرُض، لِمَا تركه من علمٍ نافعٍ في مجال اختصاصه (التاريخ القديم) لليمن، قراءة نقوشه، فك طلاسم وحروف (الزبور) للحضارة الحِمْيَرية بِرُمتها، تنسيق ما أمكن من نصوصٍ وكتاباتٍ جُمِع أوصالها بين متاحف اليمن، وأوروبا، وأمريكا، وهي الأمكنة التي احتفظت بتاريخ الأمم والشعوب، التي تَعرَّضت في معظمها للنهب الاستعماري الجشع منذ بدء الغزوات الحديثة للمستعمرين الأوروبيين كالأسبان، والبرتغاليين، وبعدهم الهولنديون، وتتالوا تِباعاً البريطانيون، والفرنسيون، والألمان، كل هؤلاء الأقوام (الناهبة بشراهة) اشتركوا معاً، أي فُرادى وجماعاتٍ في نهب تراث الأمم والشعوب في كُلٍ من مصر، وشمال أفريقيا، وحضارة ما بين النهرين، أي الحضارة الآشورية (الحضارة السورية الكبرى)، والحضارة اليمنية فاحشة الثراء، لكنها لا زالت حبيسة بُطُون الجبال والسهول والصحارى اليمنية.
وتجدر الإشارة هُنا إلى أنَّ النهب الأوروبي لحضارات الغير قد بدأت بالتحديد في العصر (الروماني – المقدوني) ومن ما كان يُسمَّى بالعصر الإغريقي ما قبل الميلاد، أي في ما يُعرف اليوم باليونان.
وتاريخ اليمن العظيم لا زال مطموراً ومدفوناً ومخزوناً في أجزاءٍ واسعةٍ من مناطقه، يتوجب على الغيورين من أبنائه بذل المزيد من الجهد للتنقيب عليه والحفاظ على مكنوناته ليصبح جزءاً من إثباتٍ بأنَّ اليمن هو مصدر بدء التراث الإنساني التاريخي الذي أُهْمِل طويلاً وربما مُتعمداً.
دعونا في مناسبة فقدان عالمٍ جليل ومجتهد فذ وصاحب باعٍ طويلٍ في الاختصاص أن نُركز على المحاور الآتية، لعلَّها تكون أحد الروافد الجادة لمواصلة الجهود في هذا الاختصاص الهام من الاختصاصات التي قد تَقْلِبْ التاريخ الإنساني برُمته، انطلاقاً من فحص ما يتصل بتاريخ اليمن العظيم:
أولاً:
تاريخ اليمن لا زال كنزاً مكنوناً، وتضاريس اليمن لا زالت تحتفظ بالكثير من تلك الأسرار المدفونة، وإنها تحتاج لجُهدٍ مُتعاضدٍ بين الجهد الحكومي والشعبي مع تلك المنظمات العربية والدولية ذات الاهتمام بهذا الاختصاص.
ثانياً:
بذل البروفيسور/ يوسف الشيباني، وزملائه من الأساتذة الأجلاء، وطلابه النُجباء، الجهد الكبير في التحليل والتنقيب والدراسة، لكن لا زال اليمن بتاريخه الطويل يحتاج لعقولٍ جديدة نشطة، ورؤيةٍ ثاقبةٍ، تجاه هذا التراث العظيم الذي يمتد لآلاف السنين، ويتطلب ذلك إمكانيات وخبرات إضافية.
ثالثاً:
إنَّ أقدم جامعتين في اليمن (جامعة صنعاء وجامعة عـدن) تأسستا عام 1970م، ولذلك فإنَّ نصف قرنٍ من الزمان تُعدُّ فترةٍ زمنيةٍ محدودة وقليلة، مقارنةً مع تاريخ اليمن الذي يمتد لآلاف السنين.
رابعاً:
اليمن تعرَّضت للعديد من الغزوات الأجنبية، وحتى من الدول الشقيقة، وأثَّر ذلك على الاستقرار السياسي والأمني وحتى التنموي، مما انعكس على واقع الحال كبلدٍ ومجتمعٍ فقير نسبياً من الناحية الاقتصادية، لذلك فإنَّ الاستقرار سيكون عاملا أساسيا في نبش تضاريس اليمن لمعرفة أسراره وكنوزه الثقافية الحضارية التاريخية.
خامساً:
اجتهد المفكر العربي الكبير/ فاضل الرُبيعي، وكتب العديد من الأبحاث وألَّفَ العديد من الكتب التي أثارت اهتمام الجامعات والباحثين ووسائل الإعلام العربية والأجنبية، ولو صَحَّت فرضياته البحثية تجاه اليمن، فإنها ستُعيدُ لليمن مجده الزاهي، وحضارته العريقة، ومكانته العلمية اللائقة به، كمهبطٍ للعديد من الديانات والرسالات التي زَوَّرَ المستشرقون الأوروبيون موضع وموقع تضاريسها من تضاريس اليمن إلى أمكنةٍ أخرى.
سادساً:
يجب أن يُعْطَى هذا الاختصاص (تاريخ اليمن القديم) مكانته اللائقة المميزة من خلال عقد المؤتمرات العلمية السنوية له، وأن تُدْعَى الشخصيات العربية والعالمية المهتمة بتاريخ الإنسانية، واليمن تحديداً.
سابعاً:
نقترح أن تُؤسَّس كلية أو جامعة حكومية في صنعاء، ولها فرع في عدن، أو حضرموت، مهتمة بالانشغال بالتاريخ القديم والحديث معاً، وتُسمَّى باسم العلامة اليماني/ يوسف محمد عبدالله الشيباني، تبجيلاً وتكريمًا للتاريخ اليمني، وللعالم الجليل/ يوسف الشيباني، رحمة الله عليه.
الخلاصة:
إنَّ فهم وإعادة قراءة تاريخ الأمم والشعوب في العالم أجمع هي أحد المؤشرات الهامة والعلمية التي توجه بوصلة حاضر تلك الأمم نحو المزيد من السيطرة على أدوات النماء والتطور لتلك الشعوب.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾
*رئيس مجلس الوزراء – صنعاء