المرشدي.. عملاق الغناء اليمني

محمد اليوسفي

ليس من السهل الكتابة عن حياة مبدع كبير له مكانته الكبيرة في الوسط الفني والأدبي والثقافي بشكل عام، شخصية فنية وثقافية رائدة بحجم شخصية الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، هذا الاسم الاستثنائي في تاريخ ومسار الغناء اليمني، ولا يدرك هذه المكانة الكبيرة إلا من وقف على إبداعه الفريد والمتنوع، إبداع المرشدي في التلحين والأداء، وإبداع المرشدي في التأليف ودراسة التراث الغنائي اليمني من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي ابتدأها بكتابه الشهير (أغانينا الشعبية) الصادر في العام 1959م، وهو أول كتاب يوثق للغناء اليمني بشكل منهجي، وتلاه كتابه الشهير أيضا (الغناء اليمني القديم ومشاهيره)، الصادر في العام 1982م، وهو الكتاب الذي وثق فيه المرشدي لرواد ومشائخ الغناء اليمني، ووقف في هذا الكتاب على تجارب رواد الغناء اليمني بالشرح والتحليل لتلك التجارب، وقدم تلك الشخصيات الفنية بأسلوب رفيع ينم عن معرفته الواسعة بأصول الغناء اليمني، ويعتبر هذا الكتاب أهم مرجع في الغناء اليمني القديم على الأطلاق، كما أن للأستاذ محمد مرشد ناجي كتب أخرى منها كتاب (صفحات من الذكريات)..
هذه الوقفة القصيرة في الذكرى الثامنة لرحيل الفنان محمد مرشد ناجي ما هي إلا مجرد تذكير بعطاء هذا الإنسان العظيم، الذي أمتعنا وأطربنا بإبداعه المتجدد.
فقد رحل المرشدي في السابع من شهر فبراير من العام 2013م، وبرحيله فقد الفن والإبداع واحدا من أبرز وأهم الأسماء الفنية في اليمن والوطن العربي، وقد رحل المرشدي مخلفا أعمالاً فنية كثيرة من أروع الأغنيات اليمنية التي ارتسمتْ في ذاكرة الجماهير، فما من مناسبة أو موقف إلا وتذكرنا واحدة من روائع المرشدي.. حقاً لقد كان نجماً سامراً في سماء الفن والإبداع !
ولعل ما ميز فناننا الراحل عن الكثير من الفنانين هو تفرده بغناء مختلف ألوان الغناء اليمني بمهارة فريدة، فقد كان له نصيب كبير من غناء الموشح اليمني، وقد غنى عشرات الألحان التراثية، ومن ذلك الأغنية الشهيرة التي أبدع في أدائها (المعنى يقول)، وهي من كلمات الشاعر محمد بن عبدالله شرف الدين( 877هـ ــ 965هـ ) :
” المعنى يقول يا من سكن في فؤادي
واحتجب في سعوده
كم يكون الجفا يا فاتني والبعادي
لا جزى من يعوده
إن جسمي نحل من جور هذا التمادي
يا مطوع حسوده ”
ومن كلمات الشاعر محمد بن عبدالله شرف الدين ومن الشعر الحميني أيضا غنى المرشدي : (يا من سلب نوم عيني طرفه النعَّاس) ، (عليك سموني) ،(يا مكحل عيوني بالسهر)..
لقد كان المرشدي أكثر تألقا وأحسن أداءً لتلك الأغنيات من غيره ، كما غنى المرشدي الأغنية الحضرمية وأبدع في غنائها ، ويتضح ذلك من أغنيته المحضارية الكلمات، بعنوان (دار الفلك ) ، والتي مطلعها:
قريب بابدل بداري دار ”
معمورة وديرة غير ذي الديرة
لكن قلبي ما رضي يختار
غير ( الشحر ) لا وليته الخيرة ”
ومن منا ـ أيضاً ـ لم يطرب بأغنياته اللحجية المنشأ ، والتي أبدع في أدائها أيما إبداع يجعلك تهتز طرباً أثناء سماعك لها ، ومن تلك الأغنيات أغنيته الشهيرة (صادت عيون المها قلبي) ، والتي هي من كلمات الشاعر الأمير أحمد فضل بن علي العبدلي الملقب بالقمندان(1882ـ 1942):
هل أعجبك يوم في شعري غزير المعاني
وذقت ترتيل آياتي وشاقك بياني
وهل تأملتَ يا لحجي كتاب الأغاني
هل أسمعك فضل يوماً في الغناء ما أعاني
وكيف صاد المها قلبي وماذا دهاني
وهل دعاك الهوى يوماً كما قد دعاني
وكذلك أغان أخرى من كلمات الشاعر عبد الله هادي سبيت(1921ـ 2007) ومنها (بانجناه ) و( له يا بوي ) ، ( القمر كم بايذكرني جبينك ) ، وغيرها الكثير من الأغنيات اللحجية، التي شدا بها المرشدي .
وبحكم أن المرحوم محمد مرشد ناجي من مواليد محافظة عدن حاضنة الأدب والفن ، فقد أخذ المرشدي ينهل من ذلك التنوع الغنائي وكانت الأغنية العدنية تشق طريقها نحو الظهور، ومحمد مرشد ناجي واحد ممن أسهموا في تطوير الأغنية العدنية ، ومن أغانيه التي تنتمي إلى هذا اللون أغنية وقفة من كلمات الشاعر محمد سعيد جرادة(1927ـ1991)، وهي أول أغنية لحنها المرشدي :
هي وقفة لي لستُأنسى ذكرها أنا والحبيبْ
في ليلة رقصتْ من الأضواء في ثوبٍ قشيبْ
لما التقينا والجوانحُ لا تكفُ عن الوجيبْ
فهززته وهو الرقيقُ كنسمةِ الفجرِ الرطيبْ
ومضى المرشدي ينهلُ من معين التراث اليمني ، ويفتش عن درره المكنونة ، وكانت أغنية نشوان للشاعر الدكتور سلطان الصريمي واحدة من تلك الدرر ، وكذلك درة أخرى وهي من كلمات الراحل عبدالفتاح إسماعيل (تاج النهار)، والتي ابتدأها المرشدي بنوع من الموال المشهور في منطقة الحجرية بـ (الملا لاه)، فقد كان هذا اللحن منسجمًا كثيرًا مع كلمات الأغنية ، ولعل اختياره لهذا اللحن لم يكن جزافاً بل نابعاً من الإيحاءات التي تزخرُ بها القصيدة ، وهذا ما يدل على الذائقة الفنية التي كان يتمتع بها المرشدي ، وقبل هذا استطاع الفنان محمد مرشد ناجي أن يشكل ثنائيته الفنية مع الشاعر الدكتور سعيد الشيباني،فكان نتاج تلك الثنائية أروع الأغنيات التي غناها المرشدي ، ومنها أغنيته الشهيرة ( يا نجم يا سامر ) و( يا طير يا رمادي ) و ( صنعا الكروم ) ، وغيرها الكثير من الأغنيات ، كما غنى للعديد من الشعراء منهم أحمد الجابري ، وعبدالله هادي سبيت ، ومحمد سعيد جرادة، ولطفي جعفر أمان..
ولم يتوقف المرشدي عند هذا الحد من الإبداع ، ولم يكتفِ بتقديم الأغنية وتسجيلها ، بل ظل أستاذًا ومعلمًا للكثير من الفنانين اليمنيين وغير اليمنيين واستطاع أن يتجاوز ـ بإبداعه ـ الحدود الجغرافية ، فهذا فنان العرب محمد عبده يثني على فناننا المرشدي ويشهد بعبقريته ، وغنى واحدة من روائع المرشدي ، وهي أغنية ( ضناني الشوق )، وكذلك الفنان السوري فهد بلان(1933ـ 1997م) في أغنية (يا نجم يا سامر)، إلى جانب الكثير من الفنانين الذين تأثروا بالمرشدي ، وتغنوا بأغانيه وتتلمذوا على يده ، لذلك ستتعاقب الأجيال وما زال اسمه محفورًا في ذاكرة الفن والأدب ، وسيبقى المرشدي نجمًا سامرًا في سماء الإبداع والفن.

ـ المرشدي في رائعة ” الفل والورد”:
أغنية ” الفل والورد ” واحدة من روائع الفنان الراحل محمد مرشد ناجي – رحمه الله – وهي عبارة عن مناظرة شيقة ممتعة بين الورد الأحمر ” الفاتش” في خدود الغواني ، وبين الفل السامر تحت آذان الصبايا البيض ، و المنتشي بليالي الأنس والسمر بين العاشقين .
مناظرة مدهشة بين الفل والورد قائمة على الحجج والأدلة ، يتجلى فيها خيال شاعر خصب ، وعبقرية متناهية ، وإحساس فنان مرهف ، عشق الكلمات فأبدع في تلحينها وأدائها ، إنه المرشدي الفنان الذي لا يشبهه أحد ، و لا يشبه إلا إبداعه .
” قال أبو ناصر المضنــى فَتَش ورد نيسانْ
في خدود الغــواني
آنس الفل يوم الورد للزهر سلطانْ
حاز كــــــــــل المعاني ”
بعد أن افتتح الشاعر قصيدته بهذا المطلع ، واصفا جمال الورد وهو يزينُ خدود الغواني بروعته واحمراره ، أحس الفل بسلطان الورد ومكانته ، فانبرى مزهوا بنفسه بثوبه الأبيض يختال أمام الورد منتشيا ، يفخر بشراء العاشقين له :
” جوبَ الفل قال الفـــــــــــن لي والتفنان
نشوتي للـــــيل داني
ما ترى الزَّف بعدي العصر في بعض الاحيان ؟
كل عاشـــــق شراني ”
لم يطق الوردُ حديث الفل وتفاخره ، وكان قاسيا في رده ، حيث أمر الفل أن يسكت ولا يتكلم ، معتبرا حديث الفل هذيانا وتمنيا ، وأخذ يتفاخر ببساتينه الفسيحة في الجنة ، وشراء العاشقين له في البصرة :
“جوبَ الورد قال اسكـت كم فيك هذيان
خلي عنك الــــــــــتماني
لي بساتين في الجنة فسيــحة وحيطان
يـوم ربي عــــــــــطاني
كل عاشق من البصـرة شراني بحُمران
في مرش الصَــــــياني”
ازداد غضب الفل بعدما سمع ما سمع من حديث الورد ، وقال :
“جوبَ الفل قال الفــــــــــن لي والتفنان
نشوتي للــــيل داني
مسكني في خدود البيض مـن جنب الاذان
يشهدوا لي الــــغواني
أنت يا ورد أحمر ليس في الحمرة إحسان
خلي عنــــــــــك التماني
شوف أنا مكتسي طـــول الزمن وأنت عريان
فوقك الشـوك باني
كم يقع للذي يجنــاك في يومه أكوان
يصبح الدم حــــــــــــاني”
ـــ الورد مذكرا الفل بنهايته المأساوية المحزنة :
“جوبَ الورد قال الصيت لي عند رضوان
وعند حـــــور الحساني
أنت يا فل مـــرمي يدعسك كل شيطان
في الكـــداديفضاني
بعد ما تنجح السمرة يخلـــــوك مهتان
ينذقوك يـــــــــوم ثاني”
ـ الفل يطلب الصلح :
“جوبَ الفــــل قال الآن يا ورد نايسان
با يقع لـــــــي أماني
خلنا نصطلح نـــــــــــــــبقى أنا وأنت إخوان
يا سهيل اليماني
با يقع لي ضمين الشـــاذلي وابن علوان
لا يخينوا ضماني
ذا جــــــرى بينهم والهاشمي بات سهران
لقريب الأذانــــي”
روعة اللحن والأداء لا تقل جمالا عن روعة الكلمات، وكما تتجلى عبقرية الشاعر في سبك أغوار هذا النص تتجلى أيضا عبقرية المرشدي في تطويع النص بلحن مناسب ، ليصبح أغنية مستساغة لدى الجمهور ، إنها خصوصية المرشدي التي جعلت منه فنانا كبيرا ومتميزا .
كم من النصوص الفصيحة والعامية ما كان لها أن تبرز على أوسع نطاق لولا الألحان التي أبدعها الفنان الراحل محمد مرشد ناجي، لروحه الرحمة والخلود .

قد يعجبك ايضا