جميل مفرِّح
في الكتابة الروائية ما يمكن أن يغني القراءة ويشبعها من مختلف نواحيها ويحقق معظم أهدافها إن لم يكن كلها.. ونادرون جداً هم الكتاب الذين يستطيعون إجمال تلك الرغبات والأهداف في عمل روائي واحد، لصعوبة ذلك، بل ولوصوله حد الإعجاز أحياناً.
فلا يمكنك ككاتب أن تحقق ذلك الحشد الضاج الذي يتطلبه استحضار كل تلك الأهداف في عمل روائي واحد، وقد يكون صعباً إلا أنه ممكن أن يحدث في تجربة روائية واحدة، لا تمل ولا تكل من المغامرة والتجريب والمحاولة وإعادة المحاولة.
من الصعب جداً جداً وقريباً من المستحيل أن تحقق التنوع المطلوب، ذلك الذي في اعتقادي هو شرط لازم لأن تكون كاتباً وفناناً وفيلسوفاً ومتخصصاً بارعاً في علوم الاجتماع والنفس والسياسة واللغة والأسفار.. و… و…. كثير من العلوم والفنون الهامة التي يلزم غالباً توافرها في الكاتب، والكاتب الروائي بالذات..
هناك كتاب بارعون لاخلاف في ذلك، ولكن ومع ذلك فإن لكل كاتب حدوده العليا التي لا يمكنه تجاوزها، وإن أمكنه ذلك، فعلى حساب ما يقدمه من إنتاج، وخصوصاً في عالم السرد.. ذلك العالم الذي تساهل ويتساهل الكثيرون الولوج إلى مجاهله، فاقتحموها مقدمين إنتاجات لا تخلو من التشويه والإعاقة.
غير أن هناك في المقابل تجارب استطاعت أن تتعامل مع الكتابة كحياة، يجب أن تمارس باشتراطاتها الأساسية، ثم تعاش كما يجب أن يكون المعني بها، مميزاً له خصوصياته ولمساته المختلفة عن سواه من ملايين الشركاء، أي البشر الذي يشاركونه الحياة.. كل في مجتمعه وبيئته وكل في أسلوبه ونوع الفن الذي يعيش من أجله كالسرد مثلاً.
عند كاتب له خصوصيته في التعامل مع الكتابة، توقفت قراءاتي لفترة، توقف محب شغوف وقارئ عرف ويعرف ما يمكنه أن يقرأ.. توقفت عند الكاتب البرازيلي باولو كويلو فقرأت له جملة من المؤلفات، منها: إرشيف الجحيم، والحج، وإحدى عشرة دقيقة، وألف، ووصولاً إلى روايته الأشهر (الخيميائي) التي حققت له شهرة وثروة كبيرتين جداً، وعدت لذلك من أبرز ما أنتج في عالم السرد برازيلياً وعالمياً في العصر الحديث..
فلسفة الحياة والوجود
في هذه الرواية يتقمص الكاتب أدواراً عدة قد يبدو بعضها أضخم منه ولكنه سرعان ما يكشف خلاف ذلك.. يتقمص دور الحياة أحياناً ودور تفاصيلها ومصاعبها أحياناً أخرى، ودور الإنسان الضحية لكل وفي كل ذلك أكثر من هذا وذاك.. وبهذا فإن أبرز ما يلمح في هذه الرواية جنوحه، أي الكاتب، باتجاه الفلسفة، فلسفة الحياة والتفاعل المتبادل بينها وبين من يعيشونها.. ويشير إلى ضرورة تميزك كإنسان في هذه العلاقة، ليؤكد ختاماً على: “أن الحياة، في الحقيقة، كريمة مع من يعيش أسطورته الشخصيّة”..
فهو لا يرى من لا يمتلك أسطورة ونفساً مميزاً وأثراً فاعلاً في هذه الحياة، ككائن حي، فالكائن الحي هو المؤثر والمتأثر بأي شيء في الوجود.
الإصغاء إلى القلب
عن فلسفته للحياة أيضاً يرى باولو أننا عندما نسعى لأن نكون أفضل حالاً مما نحن عليه، فإن كل شيء يغدو أفضل من حولنا.. وبدا وكأنه في أكثر من مكان ومناسبة في سرده هنا يعيد ويشدد على ضرورة إيجاد الذات وغمسها بفاعلية مع الحياة والوجود. فنحن في رأيه عندما نسعى لأن نكون أفضل حالاً مما نحن عليه، فإن كل شيء يغدو أفضل من حولنا..
ثم يصل لحقيقة مبتكرة هي أن عليك كإنسان أن تصغي إلى قلبك، لأنك لن تستطيع أبداً إسكاته.. وحتى إن تظاهرت بعدم سماع ما يقوله، سيبقى هنا في صدرك، ولن يكف عن تكرار ما يفكّر به حول الحياة والكون.
… وفي الصحراء حياة
ومن اندماجه واندماج بطله بالصحراء في هذه الرواية يتلمس كويلو ما يمكن تقديمه من الصحراء فيشرق بما تخبئه الصحراء من كنوز المعرفة والفلسفة ليرى أنها تساعد على فهم الكون أكثر من أي شيء آخر على سطح الأرض، حتى إنك لست بحاجة إلى فهمها إجمالاً، بل يكفي أن تتأمل حبة رمل بسيطة، لترى فيها عجائب الخلق كلّها.. كما يقول أنه إذا كان باستطاعتك العيش دائماً في الحاضر، سيكون بإمكانك العيش سعيداً.. وستدرك أن في الصحراء حياة، وفي السماء نجوماً، وأن المتحاربين يتقاتلون لأن ذلك جزءٌ من حياة البشر، وستغدو الحياة عندئذٍ مهرجاناً كبيراً لأنها ليست سوى اللحظة التي تعيشها فقط..
وبالتوقف عند فلسفة التقاتل لا ينسى المؤلف أن يذكرنا بالصراعات السياسية عديمة الجدوى وعقيمة الفوائد فيؤكد على أنه “عندما تنشب حرب بين قوى تتصارع للوصول إلى السلطة، فإنها تستمر أكثر من أي حرب أخرى، لأن الله يقف فيها مع الجانبين في آنٍ واحد.”
نعم إنها الصحراء لدى كويلو التي لا شيء يتغير فيها غير الكثبان عندما تهب الرياح.. والتي لا تخجل ولا تتعب من بعث العبر والرسائل الوجودية ذات الفلسفات الأعمق والأكثر دلالة على إنها من تخبرنا دائماً انه “إذا كان باستطاعتنا العيش دائماً في الحاضر، سيكون بإمكاننا العيش في سعادة و “سندرك أن في الصحراء حياة، وفي السماء نجوماً، وأن المتحاربين يتقاتلون لأن ذلك جزءٌ من حياة البشر، وستغدو الحياة عندئذٍ مهرجاناً كبيراً لأنها ليست سوى اللحظة التي نعيشها فقط.”
فلسفة الحب
حين يحضر الحب يشحذ المؤلف فلسفته بل كل فلسفات الوجود الممكنة ويستحضرها بين يدينا ويديه ليقتعنا ويقتنع معنا أن “هناك على الدوام شخصا ما في هذا العالم ينتظر شخصاً آخر، وعندما يلتقيان، وتتعانق نظراتهما، يصبح الماضي والمستقبل بلا أهميّة، إذ لا وجود لهما، وتغدو لحظة الحاضر وحدها هي الوجود واليقين.”
نعم يجزم باولو بأننا عندما نحب، نستطيع أن نشعر أننا أصبحنا جزءاً من هذا الكون الغريب، وعندما نحب لا نعود في حاجة إلى فهم ما يجري، لأنه بات يجري في أعماقنا.. وأننا مرة أخرى “عندما نسعى لأن نكون أفضل حالاً مما نحن عليه، فإن كل شيء يغدو أفضل من حولنا.”
ثم يستجمع كويلو كل قواه وشجاعته ليصل بنا في نهاية المطاف إلى أن الخوف من العذاب أسوأ من العذاب نفسه، وليس هناك من قلب يتعذّب عندما يتبع أحلامه، لأن كل لحظة من البحث هي لحظة لقاء مع الله والخلود..
وأن البشر يحلمون دائماً بالعودة أكثر مما يحلمون بالرحيل.. أي عودة يعني..؟! كل عودة إلى الله، إلى الحب، إلى الرشد، إلى الحياة بمعناها الذي يجب.. كل ذلك مفازات وجوائز ومكافآت ثمينة جداً لا يمكن الفوز بها ما لم تكن إنساناً محباً للحياة في معناها الوجودي الأصلي والحقيقي.. مؤكداً دائماً على إمكانية قهر الصعاب والتغلب عليها، وأن الساعة الأكثر ظلمة هي التي تسبق شروق الشمس.. أي أنك في أية لحظة من الوجود مهما كانت قصيرة قد يمكنك الانتصار على كل شيء وقهر الهزائم.
الرواية والمؤلف:
– (الخيميائي) عدت من الروايات الأكثر مبيعاً في العالم، إذ يذكر أنها حققت رقماً قياسيا في البيع حيث وصلت نسخها المباعة إلى 30 مليون نسخة في أكثر من 150 دولة.. وقد ترجمت إلى 65 لغة عالمية.. وساهمت إلى جانب روايته الأخرى (إحدى عشرة دقيقة) إلى اعتباره أعلى الكتاب رواجاً في العالم.. ويصل إلى بيع أكثر من 150 ميلون كتاب من مؤلفاته..
ويذكر أن (الخيميائي) نشرت أولى طبعاتها في العام 1987م.. وقد كاد الناشر أن يتخلي عنها في البداية، ولكنها سرعان ما أصبحت من أهم الروايات البرازيلية والعالمية وأكثرها مبيعا.
– أما پاولو كويلو فروائي وقاص برازيلي شهير، تتميز رواياته بمعنى روحي يستطيع العامة التعامل معها.. مستعملاً شخصيات ذوات مواهب خاصة، لكن متواجدة عند الجميع.. كما يصفه النقاد ويعتمد على أحداث تاريخية واقعية لتمثيل أحداث قصصه.. وقد عين سنة 2007م في منصب رسول السلام التابع للأمم المتحدة.. ولد باولو في ريو دي جانيرو عام 1947م.. وقبل أن يتفرغ للكتابة، كان يمارس الإخراج المسرحي، والتمثيل وعمل كمؤلف غنائي، وصحفي. وقد كتب كلمات الأغاني للعديد من المغننين البرازيليين أمثال إليس ريجينا، ريتا لي راؤول سييكساس، فيما يزيد عن الستين أغنية..
بدأ ولعه بالعوالم الروحانية منذ شبابه، حينما جال العالم بحثا عن المجتمعات السرية، وديانات الشرق..
حاز على المرتبة الأولى بين تسع وعشرين دولة.. ونال على العديد من الأوسمة والتقديرات.
وحاليا، يؤلف القصص المحررة من قبل العامة عن طريق الفيس بوك.