كلما هلت الأجواء الرمضانية من كل عام وتبدأ التحضيرات والاستعدادات لاستقباله ، يطغى الحديث عن ارتفاع الأسعار على هذه الأجواء الإيمانية مقارنة ببقية شهور السنة، بطريقة جعلت الأمور تبدو وكأن هناك علاقة بين قدوم هذا الشهر وارتفاع الأسعار، وأن هذا الشهر هو المسؤول المباشر عن هذه الظاهرة الاستهلاكية المقلقة للكثير من الأسر والشرائح الاجتماعية,لأن البعد الاستهلاكي بات يستحوذ على اهتمام أفراد المجتمع ويشكل الشغل الشاغل لهم، وذلك على حساب البعد الديني بطقوسه وعباداته وتجلياته الإيمانية التي تجسد المقصد الشرعي من وراء هذه العبادة والواقع أن ارتفاع معدلات استهلاك الطعام هو السبب الرئيسي لارتفاع معدلات الأسعار بالرغم من كونه شهر للصيام وليس لزيادة الطعام .
ولأن كثيراً من الناس استسلم لبعض العادات السلبية في هذا الشهر والتي تتمثل في طريقة الإنفاق الاستهلاكي الزائد الذي يعتبر سوء استخدام للمال أن كان متوافراً وإن لم يكن يتم تدبيره بالاقتراض ولكل السلع المتوفرة ,لكن حقيقة رمضان انه يأتي في محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد وعملية تدريب مكثف تستغرق شهراً واحداً تُفهم الإنسان أن بإمكانه أن يعيش بتخفيف الاستهلاك ,واستهلاك بعض المفردات في حياته اليومية لساعات طويلة كل يوم في نشاطات مختلفة لأنها محاولة تربوية لكسر النهم الاستهلاكي الذي أجمع علماء النفس المعاصرين أنها حالة مرضية أو حالة من عدم التوازن والضعف أمام الطعام وملذاته وأن مجال علاجه مشترك في علم النفس وليس في علم الاقتصاد فقط وإن كان يصيب بتأثيراته أوضاع الاقتصاد وأحواله مباشرة .
وضع الاقتصاديون قوانين ورسموا المزيد من المنحيات والمعادلات ولكن من المؤكد أنهم ابتعدوا كثيراً عن المتغير الأكبر الذي يقرر صلاحية أو عدم صلاحية كل ما تحدثوا عنه وتوقعوه وهو سلوك الإنسان وهو أهم متغير يجب العناية به ,وخصوصا في المناسبات الدينية فالإنسان الذي لا يحسن التصرف ويمكن أن يغير نفسه من حيث لا يعلم وقد يسلب ما معه من مال ويؤخذ ما بيده دون اكتراث منه أو اهتمام وغالباً إن لم يكن دائما بسبب انعدام النضج الاستهلاكي الذي يعني امتلاك القدرة على الوقوف عند نقطة التوازن والاتزان الحقيقي بين حدين متناقضين كل منهما غير مطلوب (التقتير,الإسراف),مع أن هذا الأمر ربما يكون عند التنظير أمرا سهلاً وميسوراً إلا أن التصرفات الحياتية والتدقيق في المصروفات المالية الفعلية للفرد فيوجد بون شاسع بين التنظير والواقع الاستهلاكي المعاش ليس فقط في فئة أصحاب الدخول العالية فحسب بل إن هذا الإختلاف موجود داخل المجتمع ككل بكل فئاته ,وربما كانت الهوة بين التنظير والتطبيق لدى غالبية أفراد المجتمع ظاهرة بفقدان بوصلة النضج الاستهلاكي الذي يعني توزيع الدخل إن وجد أيّاً كان يومياً أسبوعياً شهرياً سنوياً بين الاستهلاك والإدخار لمواجهة المتغيرات في الدخل والحكمة حين الصرف الاستهلاكي بحيث يتم التفريق بين الضروري والحاجة والتحسين والتوسع في الإنفاق.
شهر رمضان فرصة دورية للتعرف على قائمة النفقات الواجبة بالمفهوم الاقتصادي وعلى قائمة الاستبعاد في الإنفاق غير الملزم وغير الضروري سوى أنها عادات أكثر منها عبادات ثم إنها فرصة لترتيب سُلّم الأولويات ثم فرصة كذلك للتعرف على مستوى الزيادة الممكنة إن وجدت, إن تشوهات وفوضى الاستهلاك تبرز بوضوح في نفقات السلع والمواد الغذائية التي تبتلع فعلا النسب الأكبر من الدخل ,في المقابل من التاجر بوضعه في قالب مشوه عندما يقوم بتحويله عاما بعد عام إلى مناسبة للترويج والتسويق الكثيف والحاد لمختلف السلع ,حتى لو كانت رديئة وغير مطابقة للمواصفات وتسهم في ذلك بقوّة مختلف وسائل الإعلام وفنون الدعاية وهكذا يتزايد إخضاع المشاعر للاستغلال كوسيلة من وسائل توسع السوق وتصريف كل شيء, بل أحيانا لترويج أكثر السلع بعدا عن الحاجة وهنا استطاع هذا العامل من التغلب وتخطي وتجاوز البعد الاقتصادي والنضج الاستهلاكي ,لذلك فإن التسويق بالمضمون لو تمت ممارسته بكفاءة ونضج يمكن أن يسد الفجوة وترتفع الثقة والمصداقية ويجد المستهلك أن البائع يقوم بدور إيجابي فعال ومتضامن معه في كل ما يخص السلعة بما فيها الكميه الكافية .
ونظراً لضعف وتراجع القوة الشرائية لغالبية أفراد المجتمع للاستهلاك بما فيها تحويلات المغتربين كنتيجة للوضع القائم المتمثل(الحرب,الحصار,جائحة كورونا) فمن المهم ارتفاع مستوى الوعي ليصبح النضج خلال مثل هذه المواسم أداة لأكثر ترشيدا *وانتقائيا بحيث يرتكز حاجاته للأكثر أهمية واللازمة مع قدر متوازن بأحجامها وأعدادها وكمياتها,لأن مفتاح حل الأزمات الحقيقي في التربية يكمن في النضج الاستهلاكي من خلال اتباع أسلوب تسويقي وشرائي مقنن ومرشّد يساعد على ضبط الاستهلاك والمحافظة على مستويات أسعار معقولة ومقبولة منطقيا في الأسواق وكذلك المحافظة على معدلات تضخم مقبولة اقتصاديا وتجاريا.
كما بات في حكم المؤكد ضرورة أن تقوم الجهات المعنية بتفعيل رقابتها بشكل مباشر وتحليل مؤشر الأسعار ومستوى الجودة لكل السلع بشكل دوري، إذا تبين أن هناك ارتفاعا غير مبرر لأي سلعة أو مغالاة في الأسعار يتم ضبط أسعارها على مستوى التجار والمحلات التجارية سواء أكانوا مستوردين أو تجار جملة أو تجار تجزئة ، وأن تؤكد رقابتها تلك على حركة السوق وخصوصا ما يخص قطاع الأغذية والمواد التموينية والملابس وكل ما يتعلق بالمنزل ..،وذلك لتجنب الإرباك والضغط الذي تحدثه ارتفاعات الأسعار شبه اليومية على جميع أفراد المجتمع والتي تأكل الأخضر واليابس، والحجج والمبررات التي يتم تقديمها من قبل البائعين الكثير منها حجج غير مقنعة، ولا تخدم المنافع المتبادلة بين البائع والمشتري في السلع المعروضة ,وإذا كانت الجهات الرقابية عليها دور دائم بمراقبة الأسواق وزيادة التنافسية وضبط الأسعار فإن المستهلك عليه دور رئيسي أيضا للتأثير على ذلك كي يتم تقديمها بأسعار قريبة من أسعارها الحقيقية شاملة الربح.
*باحث في وزارة المالية