منذ بداية القرن السابع عشر ، استخدم الأوربيون القوة المسلحة وسيطروا على مساحات شاسعة من العالم ، واستغلوا ثروات وإمكانيات الشعوب ، وأسموا أنفسهم بـ ” الاستعمار” لكنهم لم يعمروا سوى بلدانهم . ونظرا لما تتمتع به المنطقة العربية من خيرات ، وموقع استراتيجي يتحكم بطرق التجارة العالمية ، من مضيق هرمز إلى مضيق جبل طارق مرورا بباب المندب ، فقد كانت المنطقة العربية محجة للغزاة والمحتلين الأوربيين طيلة قرون .
بعد الحرب العالمية الثانية ، توالت انسحابات الجيوش الأوربية من البلدان العربية ، وحصلت على استقلالها ـ أو هكذا شُبِّه لها ـ .
عمل الاستعمار القديم على تقييم تجربته في الاحتلال المباشر ، أحصى أرباحه وخسائره ، وبناء على ذلك ، عمل على تعديل خططه وأساليبه ، ومع حقبة الستينيات من القرن الماضي بدأ مرحلة جديدة من الاحتلال، هي أشد وأقسى من الاحتلال القديم .
ورغم رحيل الاحتلال المباشر ، ما تزال بلداننا العربية في ذيل القائمة العالمية في مختلف المجالات ، وما تشهده بعض دول النفط من رفاه ظاهري ، يمكن أن يزول بحادث حريق . ما تزال الدول العربية محتلة ، القواعد العسكرية تنتشر على أراضيها ومياهها من الخليج إلى المحيط ، قرارها مصادر ، وأموال النفط تُحوّل عبر ما تسمى “الصناديق السيادية” في دول النفط العربية إلى خزانات الغرب وتحرك اقتصاده ، وتعجز هذه الصناديق عن سحب أي مبلغ من البنوك الأمريكية .
خابت آمال المواطن العربي بتحقيق النهوض بعد رحيل المستعمر ، ويشعر بالخيبة والحيرة حين يقارن بلده بمثيلاتها في الشرق أو الغرب ، وتزداد حيرته حين يقارن الماضي بالحاضر، فقبل ذلك كان يرى المحتل بجنوده وآلياته ، فيحمله المسؤولية ، ويعمل على مقاومته، لكنه الآن لا يرى غير سفارة دولة الاحتلال “سابقا ” وهي دولة صديقة حاليا ، وتمارس العمل الديبلوماسي الرسمي والشعبي أيضا . وهنا يكمن اللغز ، ويربط المحتل فرسه .
فإذا كانت الديبلوماسية الرسمية تعنى بالعلاقة مع الرئيس أو الملك أو الأمير ، وتسعى لتطويعه ، فما هي “الديبلوماسية الشعبية ” التي تمارسها دول الاحتلال القديم في بلداننا العربية والإسلامية ؟! يجيب على السؤال، السياسي الأمريكي إدوارد جورجيان ، فيقول : هي معركة كسب العقول والقلوب . والمقصود هنا قلوبنا وعقولنا نحن العرب والمسلمين وليس قلوب وعقول شعوبهم هم .. ويعتبر جورجيان ذلك عنصرا مهما في كسب المعركة .
وفي نفس السياق يوضح الباحث ” جار فينكل” في كتابه ” مرشد تطبيقي لكسب الحرب على الإرهاب ” ويقول : ” كل سلطة غير مسلمة اختارت أن تضع يدها على الشرق الأوسط ، واجهت مشكلة كسب العقول والقلوب المسلمة”، وهو يقصد الاحتلال القديم الذي كان يعتمد على القوة العسكرية فقط . وينصح “جارفينكل ” الاحتلال الجديد بأن يراعي البعد الفكري في المعركة ، والعمل بمختلف السبل لإظهار الاحترام والتقدير للإسلام “مع تعبئة بعض المسلمين ليكونوا حماة وواجهة لتلك الحملة ” ليتم إقناع الشعوب بأن أمريكا غير معادية للإسلام ، ولا تريد الاعتداء على الشعوب ، وإنما تواجه المتطرفين والإرهابيين فقط الذين يعتدون عليها ويهددون أمنها.
بمعنى آخر ، يستخدم الغرب ضدنا سلاح ” الوعي ” لأنهم يدركون أن الوعي هو أخطر ما تملكه الشعوب ، ولذلك يستهدفون هذا الوعي بالتوجيه والتزييف . ومن أجل ذلك تعمل السفارات الغربية ضمن “ديبلوماسيتها الشعبية” على تغيير المناهج المدرسية ، واستقطاب النخب الثقافية والإعلامية ، ودعم المنظمات الأهلية بمختلف مسمياتها ومجالاتها ، وتتدخل في توجيه الخطاب الديني ، إلى جانب سيطرة الغرب على الإعلام والاقتصاد العالمي ، واحتكار السلاح .
لقد غادر الاحتلال البريطاني مدحورا عن أرضنا اليمنية في الثلاثين من نوفمبر 1967م، لكنه يعود الآن بشكل آخر بعد أن قيم تجربته السابقة ، وخلق حاضنة شعبية تعمل كالآلة المبرمجة ، حاضنة ترى اليمني محتلا والغازي محررا ، ترى الإرهابي والمرتزق “مقاوما وطنيا ” والمناضل والمجاهد “متمردا وانقلابيا”.
بسلاح الديبلوماسية الشعبية واستهداف الوعي ، استطاع الاحتلال القديم أن يخلق حاضنة شعبية له على أرضنا وفي أوساطنا ، لقد بلغت المأساة ذروتها في ما يحدث على أرض الواقع في عدد من بلداننا العربية ، حيث انقسمت المجتمعات على نفسها ودخلت في مواجهات فكرية وعسكرية ، وأصبح البعض لا يستطيع التمييز بين الوطني والخائن والعميل ، بين الاستقلال والاحتلال ، وتجد من يقاتل إخوانه في الأرض والدين تحت راية الاحتلال الجديد، وهو لا يدرك أنه ضل طريق الدنيا والآخرة .